للمرة الثانية على التوالي، تغيب الدول الخليجية الكبرى عن قمة عربية؛ بعد غيابها اللافت عن القمة الاستثنائية في القاهرة، يأتي غيابها مجددًا عن قمة بغداد، ليعكس بوضوح ما هو أعمق من مجرد تحفظات دبلوماسية أو انشغالات بروتوكولية، الغياب المتكرر يُترجم سياسيًا إلى موقف: هناك مشروع بديل يُبنى خارج الجامعة العربية، وهناك نظام إقليمي جديد يتشكل في الظل، بينما الكراسي في الصالات الرسمية تزداد فراغًا.
في قمة بغداد الأخيرة، لم تكن الكلمات التي قيلت هي الأهم، بل كانت الكراسي الخالية هي الرسالة الأبلغ، خمسة فقط من القادة العرب حضروا، في مشهد عبّر عن غياب الإجماع، وارتباك الرؤية، وربما إعلان غير مباشر عن نهاية المنظومة التقليدية التي حكمت العمل العربي لعقود.
ورغم أن مصر كانت حاضرة، إلا أن المعنى السياسي للغياب طغى على الحضور الرمزي، فالقاهرة، رغم وزنها وتاريخها، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ حقيقي: كيف تحافظ على دورها بينما يُعاد ترتيب الإقليم بمعزل عنها، أو بترتيبات لا تمثل أولوياتها ولا تصون مصالحها.
كلمة عبد الفتاح السيسي: محاولة لإعادة التمركز
في هذا السياق، جاءت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي كنوع من التذكير بأن مصر ما زالت حاضرة، وما زالت تملك رؤية في ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، والثوابت الوطنية، وضرورة الحل العادل للقضية الفلسطينية.
لكن الكلمة، على قوتها الخطابية، تحتاج ما يدعمها من خطوات عملية. فمصر لا يكفي أن تحذّر من تجاوزها أو تهميشها، بل عليها أن تتحرك خارج إطار التوازنات المعتادة، وأن تُظهر بوضوح أن المنطقة لن تهدأ إذا تم تجاوز مصالحها، وأن الأمن الإقليمي لا يمكن أن يُبنى على حسابها.
ما قاله السيسي مهم، لكنه يجب أن يكون بداية لتحول في الأداء الإقليمي، لا مجرد رد فعل مؤقت على تغييب القاهرة عن طاولة ترتيب الشرق الأوسط الجديد.
النظام الإقليمي الجديد: هندسة جديدة بخريطة قديمة
ما نشهده اليوم هو بناء نظام إقليمي جديد، تتصدره السعودية والإمارات، ويُدار بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة، ويُقصى عنه أي صوت ممانع أو متحفظ. هذا النظام لا يعتمد على مفاهيم العروبة أو التضامن التقليدي، بل يقوم على الواقعية السياسية، والمصالح المشتركة، والتطبيع مع إسرائيل باعتباره مدخلًا للاستقرار والتنمية.
وفي هذا النظام، تتراجع القضية الفلسطينية من مركز الصراع إلى هامش التسويات، وتُختزل المقاومة في خطاب غير مرغوب فيه، وتُعاد صياغة مفاهيم الأمن والتهديد لتُصبح إيران و”الميليشيات” هي الخطر، بينما تُقدّم إسرائيل كطرف مشروع في الإقليم.
القضية ليست فقط في غياب الخليج عن القمم، بل في حضورهم الفاعل في بناء نظام بديل، لا مكان فيه للجامعة العربية، ولا صوت فيه لدول مثل مصر إلا إذا التزمت بقواعد اللعبة الجديدة.
هل تقبل مصر بالدور الثانوي؟
مصر اليوم أمام مفترق طرق. تملك الثقل التاريخي، والموقع الجغرافي، والشرعية الشعبية، لكنها لا تستطيع الاعتماد على هذه العوامل وحدها، إن لم تتحرك، وتبادر، وتُعلن مواقف واضحة تتجاوز لغة التوازنات، فقد تجد نفسها أمام واقع مفروض لا يمكن تغييره لاحقًا.
قمة بغداد كانت جرس إنذار. حضور القاهرة لا يجب أن يُقاس فقط بالكلمة التي تُلقى، بل بالفعل السياسي، والرسائل الواضحة التي تُرسل للمنطقة والعالم.
الصمت في لحظة إعادة التشكيل قد يُفسَّر كقبول، أو كعجز، وهذا ما يجب أن تتجاوزه القاهرة سريعًا.
من يملك التاريخ لا بد أن يشارك في كتابة المستقبل، لا أن يُملى عليه من الخارج.
المعادلة باتت واضحة: إما أن تقول مصر كلمتها بالفعل، أو تُقال عنها كلمات في وثائق النظام القادم.