يحكى أن، الأميرة الأندلسية القرطبية «ولادةَ بنت المستكفي بالله» كانت ذات فتنة صاخبة، وأنوثة طاغية، وموهبة شعرية فريدة، قوية الإحساس بذاتها، شديدة الزهو بما لها، تمتّعت في حياتها بسلطة غاشمة، على قلوب وعقول محيطيها من الأمراء والشعراء.
ظهرت «ولادة» وسط الرجال، في صالونها الأدبي الفخم، دون حجاب يغطي جمالها الفاتن، أو برقع يخفي حلاوة وجهها الأخَّاذ؛ لتكون بينهم أجمل وردة في بستان، تتبختر بزينة كاملة، وبثوب حريري طرّز على عاتقيه بيتين من أشعارها على وزن الوافر الرشيق تقول فيهما:
أنا واللهِ أصـــلحُ للمعــــــــــالي وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها
وأُمْكنُ عاشقي من صحنِ خدِّي وأعطي قبلتي مَنْ يشتهيها
مكنت ولادة جرأتها الكبيرة في الحديث والفعل، من أن تجهر بأسرار لذاتها، وتروي مغامرات لياليها مع عشيقها «ابن زيدون» بأسلوب يحاكي أساليب الرجال، فتقول:
ترقَّبْ إذا جُنَّ الظلامُ زيارتي فإنِّي رأيتُ الليلَ أكتمَ للسرِّ
وبي منكَ ما لو كان بالشمسِ لم تلُحْ وبالبدرِ لم يطلُعْ وبالنجمِ لم يسرِ
لهذا عدَّها الدارسون للأدب العربي، حالة استثنائية مفاجئة، لم يشهد لها مثيل، إلا مع بدايات الألفية الثالثة. حتى أن منهم من أنكر وجودها تمامًا، زاعمًا أنها ليست سوى حكاية خيالية؛ لكسرها للصورة النمطية للمرأة المسلمة. فولادة تمثل ثورة، تمردت فيها الأنثى على السلطة الذكورية الباترياركية، التي تمنعها من البوح برغباتها الجسدية وملذاتها.
في السنوات الأخيرة، تعددت عناوين الكتابات الأدبية المكتوبة باللغة العربية، التي تعود لكاتبات من النساء، والتي يمكن تصنيفها، على أنها «إيروتيكية» لكننا إذا تتبعنا الكتابة الإيروتيكي، في الكتابات المكتوبة بالعربية؛ لوجدنا تاريخًا كبيرا، حافلًا بالإيروتيكية والكتابات الجنسية الجريئة، التي يرى البعض أنها ربما كانت تتمتع بجرأة أكبر من التي يحظى بها الأدب في أيامنا هذه. من النظرة الأولى أثناء البحث في هذه القائمة الطويلة، التي تعج بالنصوص، يمكننا أن نلاحظ أن معظم كتاب تلك النصوص، كانوا من الرجال. هنا نطرح سؤالنا الأكبر، ألا وهو أين ذهبت الكتابات الإيروتيكية النسائية في تراث الأدب العربي؟
محاولة الرصد
تقول الدكتورة «هدى عطية»، الناقدة الأدبية: “ظهرت الكتابة النسوية الإباحية، بشكل مغرق في القدم، لدى الشاعرة الإغريقية «صافو» التي كانت تمدحُ السحاق في أشعارها! وبالرغم من أن الثقافة العربية، والتقاليد المرتبطة بها، أثرت في ظهور الأدب الإريوتيكي، الذي يكاد يكون فنًّا رجاليًّا بامتياز، أو يميل إلى أن يكون كذلك، إلا أن النساء قد أبدعن أيضًا في هذا المجال، وساهمن في إثراء التراث الأدبي العربي، ولا نعدم العثور على نماذج في تراث الأدب العربي لكتابات إيروتيكية نسائية، قد تناولت موضوعات مثل (الحب- والشغف- والرغبة بشكل جريء وصريح) ومن أمثلة ذلك، ما كتبته «حفصة الركونية» أو حفصة بنت الحاج، في القرن الثاني عشر الميلادي، وهي من أعلام غرناطة، وتواترت المصادر على أنها كانت “جميلة ذات حَسَبٍ ومالِ” كما يقال أنها كانت جيّدة الشعر، سريعة البديهة، حتى وصفها بعضهم بـ”أستاذة وقتها”. كانت حفصة شديدة الحب للوزير «أبي جعفر أحمد بن عبد الملك» الذي بادلها حبًا بحب، وقد كان غزلها في بداياته متشحًا بالاحتشام، ولكن بعد ذلك لم تعد الشاعرة العاشقة تكتفي بقولها العذري: “سلام يفتح في زهره الكمام” حيث بدأت اللقاءات بينها وحبيبها، في بساتين غرناطة، يتبادلان الحبّ، فتقول له صراحة:
أزورُكَ أمْ تزورُ؟ فإنّ قلبـي إلى ما تشتهي أبدا يميلُ
فثغري مــوردٌ عـــذبٌ زُلال وفرعُ ذؤابتي ظِل ظليلُ
بهذه الأبيات تمثل حفصة الريادة في هذا اللون، الذي أضحت فيه المرأة، متلهفة لا متلهّف عليها، مقدمة ألوانًا من الإغراء لحبيبها. وإن كانت معاني حفصة غير جديدة على ألسنة الشعراء، إلا أنها جديدة على ألسنة “الشاعرات” فهي تهجم على معاني العشق والهيام، مصرّحة غير ملمّحة ولا مكنية؛ فلم نعهد قبلها شاعرة، تتغزّل في ثنايا حبيبها، أو ريقه”.
وتضيف الدكتور هدى عطية: “هناك أيضًا ممن كتبن الإيروتيكي «ولّادة بنت المستكفي» التي ارتبطت بالوزير والشاعر ابن زيدون، الذي يصفها قائلاً: “صاغها الله من فضّة خالصة” وقد كان فناء مجلسها بقرطبة، ملعبًا لجياد النظم والنثر، يتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها. ولولّادة باعٌ في الغزل الصريح إذ تقول لابن زيدون:
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي فإنّي رأيت الليل أكتم للسرِّ
وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
وفي البيتين جرأة واضحة لم تعهدها النساء قبل في أشعارهن”
وتستفيض الدكتورة هدى عطية قائلة: “وممن كتبن في هذا اللون أيضا «نزهون بنت القلاعي الغرناطية» و «أم الكرام» و «أنس القلوب» و«زينب بنت فروة المرية» وغيرهن كثيرات.
قليلة أم مهمشة؟
فيما يخص قلة كتابات النساء في هذا النوع من الأدب، ترى د.هدى عطية أن: “الحكم بقلة الكتابات النسائية الإيروتيكية المكتوبة بالعربية، قول لا نستطيع القطع به، فقد تكون قلة موهومة بسبب عدم التسجيل الكافي لأعمال النساء في العصور القديمة، فإن كثيرًا من الكتابات النسائية التي قُدمت في تلك الفترات، لم تمتلك توثيقًا كافيًا، أو تأريخًا ملموسًا، مما يجعل من الصعب تحديد المدى الحقيقي لإسهامات النساء العربيات في مجال الكتابة الإيروتيكية”.
وتكمل “عطية” قائلة: “ومع هذا، فإن القلة الإحصائية الملحوظة للكتابات الإيروتيكية النسائية في التراث الأدبي العربي، يمكن أن تعزى إلى عدة عوامل، وظروف تاريخية واجتماعية، من هذه العوامل: (القيم والتقاليد الاجتماعية في الثقافة العربية التقليدية) فقد كانت المسائل الجنسية، تُعامل بحساسية كبيرة، في إطار تقاليد اجتماعية تشدد على الحياء والاحتشام، وفي سياق ضاغط، وتحكم رقابي من قبل السلطة الدينية في مضمون الكتابات الجنسية، الأمر الذي قيد قدرة النساء على التعبير بحرية عن مواضيع إيروتيكية، وإن بدا الأدب الشعبي النسوي أكثر حرية في هذا الجانب، في مقابل الأدب العربي الكلاسيكي، الذي تضمن العديد من القوانين والتوجيهات الأدبية، التي قد تكون قد قيدت الكتابة الإيروتيكية بشكل عام”.
كما تشير الدكتورة عطية إلى أنه: “يجب أن نفهم أن هذه العوامل، لا تنطبق على جميع النساء الكاتبات في التراث العربي، فهناك دائمًا استثناءات، ونصوص تمثل إسهامات نسائية في مواضيع إيروتيكية، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها الكتابات الإيروتيكية النسائية، إلا أن هذا النوع من الأدب كان موجودًا في التراث العربي بشكل عام، وقد شكل جزءًا من تعبير الثقافة والإبداع الأدبي على مر العصور. وبالتأكيد مع تطور الزمن، وتغير القيم الاجتماعية والثقافية، زادت حرية التعبير، وتوسعت الفرص الأدبية للنساء؛ ولذا بدأنا نشهد المزيد من الكتابات الإيروتيكية النسائية في العصور الحديثة والمعاصرة، فاليوم تمتلك النساء حرية أكبر في التعبير عن مشاعرهن، وآرائهن بشكل أكثر جرأة”.