كتبت: أسماء محمود
ما بين قسوة الجبال البيضاء في الشتاء القارس تظهر الأيادي الصغيرة تعانق السماء وتختلط الابتسامات البريئة بقطرات الدموع على وجوه زهور بريئة تنحت بأياديها الصغيرة الصخور وينامون في أحضان الجبل، لم يُكتب لهم الاستمتاع بطفولتهم.
إنهم أطفال المحاجر في البر الشرقى بمحافظة المنيا، أصحاب الوجوه البيضاء المشرقة والبسمات البريئة الذين يتعرضون لمخاطر العمل في تلك الظروف القاسية، فقد دفعتهم الظروف المعيشية الصعبة إلى العمل في حضن الجبل ليودّعوا أحلام الطفولة ويصطدموا بالواقع المرير، تنحني ظهورهم لفترة طويلة في سبيل لقمة العيش، يتعرضون للبرودة الشديدة في عز الشتاء، وحرارة الشمس الحارقة في الصيف، دون غطاء يحميهم من تلك المخاطر، وسط مستقبل ضبابي مجهول يغتال براءتهم ويسرق منهم أجمل سنين عمرهم التي يقضيها غيرهم ممن هم في أعمارهم باللعب والتعلم.
معاناة أطفال المحاجر في المنيا
ويعمل الألاف من الأطفال فى هذه الظروف القاسية بعد أن دفعتهم الأوضاع المعيشية الصعبة إلى العمل بين الآلات الخطرة، فبين الحشاشة والفصالة والكسارة ينتظر أطفال المحاجر الموت في حضن الجبل، حيث مجرد وصولهم إلى موقع عملهم تختفي وجوههم تحت قناع من القماش، بينما تستعد أيديهم الصغيرة المُجهدة لبدء يوم جديد في وظيفتهم الشاقة في المحجر، فهم “حمالة”، يحملون الحجارة ويلقونها في الكسارة لتتحول إلى بودرة يتم استخدامها في أعمال البناء، وهكذا يقضون الساعات في تعب متواصل حتى غروب الشمس، أغلبهم صغار ما بين العاشرة والسابعة عشرة من عمرهم، ينتشرون فوق الأرض التي اكتست بالجير الأبيض، كأنما السماء قد أمطرت ثلوجًا على سطح الجبال.
رحلة الموت من أجل “لقمة العيش”
ويؤكد أغلب أطفال المحاجر، أن مساعدتهم لأسرهم هو ما دفعهم للعمل في المحاجر بسبب فقد عائل الأسرة وقلة الوعي ولضعف المستوى التعليمي والتسرب من التعليم، وعلى الرغم من خطورة العمل بالمحاجر على حياتهم، فهم يعملون وسط بيئة سيئة وماكينات خطرة إلا أن ظروفهم الاجتماعية الصعبة أجبرتهم على العمل بالمحاجر والتي يصل عددها مئات المحاجر، قضلًا عن الأضرار الصحية الخطيرة أبرزها أمراض العيون التي تصل إلى العمى وفقدان السمع من أصوات الماكينات والأمراض الصدرية منها التحجر الرئوي والأمراض السرطانية خاصة وأن المحاجر تعانى من غياب عوامل الأمن الصناعي والسلامة المهنية وفقدان الرعاية الصحية؛ فكثيرًا ما يتعرضون للبتر والإصابات ووفاة العاملين بسبب عدم وجود عوامل أمان والخطورة الحقيقية التي تواجههم تكمن في اشتراك بعضهم في عملية تفجير الجبل.
أبرز الماكينات المستخدمة في المحاجر
وتعد الفصالة والكسارة والحشاشة من أبرز أنواع الآلات المستخدمة التي يتعاملون معها، والكسارة هي آلة ضخمة تقوم بدق وطحن الأحجار وتحويلها إلى بودرةء والفصالة آلة قطع رأسية متصلة بموس من الصلب تتحرك على قضبان ومهمتها تقطيع الأحجار، والحشاشة هي آلة قطع أُفقية.
أطفال المحاجر بين قسوة الجبال والحجارة
يقول “علي ومحمد وحسين”ؤ ثلاثة أطفال في عمر ما بين 10 و14 عامًا من منطقة الأشراف بالقرب من منطقة المحاجر بمحافظة المنيا: “ظروفنا الاقتصادية الصعبة دفعتنا إلى التخلي عن حياتنا الطبيعية من اللعب والذهاب للمدرسة، والذهاب للعمل في محاجر الطوب الجيري لتوفير لقمة العيش ومساعدة أسرتنا”.
ويقول الطفل “عبد الله” 12 عامًا، إنه لم يكن يريد أن يعمل في بيئة المحاجر إلا أن أسرته دفعته للعمل في المحاجر بسبب ظروف الفقر والمرض، مضيفًا: “بشتغل من 6 صباحًا لحد المغرب عشان أجيب فلوس لأبويا وأمي، وبحس بوجع في صدري ومش عاوز أسيب الشغل عشان أصرف على أسرتي”.
كما يعاني الطفل مصطفى، 13 عامًا، يعمل بالمحاجر، من شعوره بالوجع حيث يقوم بتقطيع وتقليب الحجر والبلوك ورفعه على كتفه لتحميله على السيارات لتسويقه وهز البودرة الناتجة عن تقطيع البلوك وتعبئتها في شكائر ونحت درج السلم باستخدام الفأس، ويوضح معاناته في العمل قائلًا: “أنا بشتغل عشان أساعد أبويا وأمي.. أنا بتعب في الشغل وبحس بوجع بس بشتغل عشان أصرف على أسرتي، والجير بيدخل في صدري وبيخليني أكح ومش قادر أتنفس وبشتغل من 6 الصبح حتى المغرب”.
الموت بين أحضان الجبل
ونجد هؤلاء الأطفال غير مهتمين بصعوبة المهنة التي تتخطى قدرات جسدهم الضئيل، من أجل توفير لقمة عيش لأسرتهم، فيستيقظ هؤلاء الأطفال مع آذان الفجر استعدادًا ليوم جديد من العمل، يستقلون سيارة ربع نقل متهالكة من قريتهم لتصل بهم إلى المحجر يبحثون عن لقمة العيش بين أحضان الجبل في أجواء شديدة البرودة والقسوة وجبل لا يعرف الرحمة، كظروف عملهم.
وتتركز وظيفة الصغار على حمل الطوب الجيري بينما ترتعش أيدي المستجدين منهم تحت ثقل القوالب، في ظل أجواء لا تعرف الأمان ويحيط بهم الخطر من كل جانب فالأدوات التي يستخدمونها في العمل لا تقي من الأخطار، مثل الحشاشة والفصالة والكسارة فهم يتعاملون مع مواد كيماوية وصخور صلبة وأتربة وغبار جيرى يؤثر على أجهزة التنفس لديهم، ويضر بأعينهم الصغيرة، ليُصاب عدد كبير منهم بأمراض خطيرة ومزمنة فهم صغار ما بين الثامنة والسابعة عشرة، ينتشرون فوق الأرض التي اكتست ببياض الجير، فينتظر المئات منهم الموت فى حضن الجبل.
المشكلات التي تواجه أطفال المحاجر
ويواجه أطفال المحاجر العديد من المشكلات بشكل عام وأهمها غياب مظلة التأمين الصحي والاجتماعي وصعوبة دفع تعويضات لمن يصاب بحالات العجز أول الوفاة وعدم توافر وسائل مواصلات آمنة وبيئة عمل صعبة من حرارة مرتفعة في الصيف وبرودة قارصة في الشتاء والتعامل مع آلات بدائية متهالكة وعدم وجود وسائل إنقاذ سريع أو إسعافات أولية في ظل انتشار أسلاك الكهرباء المكشوفة والضوضاء الصادرة عن المعدات وسحابات الغبار الأبيض الكثيف واستغلال أصحاب المحاجر للأطفال وإعطائهم أجورًا متدنية لا تتناسب مع الجهد المبذول والإصابة بامراض التحجر الرئوي وحساسية الجلد والتهاب العين وضعف السمع والحمى بسبب ضربات الشمس والعاهات المستديمة وتفحم أجزاء من الجسم بسبب الكابلات المكشوفة وبتر أجزاء من الجسم، ومع كل هذا الشقاء الذي يلاقيه العمال الصغار فإن حقوقهم المادية التي يتنازلون من أجلها عن طفولتهم مهدورة فهم يتقاضون يومية أقل من كافة العمال تبدأ من 100 جنيه.
مطالب أطفال المحاجر
هناك الكثير من الحكايات المؤلمة يرويها هؤلاء الأطفال ومصاعب يواجهونها في مرحلة مبكرة من عمرهم يصعب نسيانها، بداية من سوء الحالة الاقتصادية التي يعانوا منها إلى الظروف الصعبة التي لم تسمح لهم بعيش طفولتهم، مطالبين بمظلة للتأمين الصحي تضمن لهم علاج آدمي وإعادتهم إلى المدرسة ومساعدة أسرهم عن طريق الصندوق الاجتماعى والقروض متناهية الصغر لإقامة مشروعات صغيرة وإعادة المتسربين منهم إلى المدرسة من اجل مساعدتهم للعيش في حياة كريمة وآدمية خالية من الخطر والمرض والموت بين أحضان الجبل.