القرين
يتربص بي عند أول خيوط الفجر، عندما يوقظني صوت بائع أنابيب الغاز وهو ينادي في الزقاق الضيق.
أراه في الحمام العتيق يضحك وهو يشير إلى صنبور المياه، والصنبور يبصق في وجهي الهواء بغيظ، بينما الصنبور الآخر يبكي دموعًا ضئيلة.
يظهر فجأة بجانب كوب الشاي الفاتر الذي أعدته بلا سكر، مرددًا: “انظر، حتى أبسط مباهج الحياة لا تنالها”.
يهز كتفيه ساخرًا عندما تغوص قدمي في مياه المجاري الآسنة التي طفحت على الرصيف، وتعلو ضحكته الخبيثة فوق صراخ سائق الميكروباص وهو يسب كل من في الدنيا بالدين والملة.
في زحام الأتوبيس الخانق حيث تلتصق الأجساد وتختلط الروائح الكريهة، أشعر بأنفاسه على رقبتي؛ رائحته ممتزجة برائحة العرق التي تخنق الروح. يهمس في أذني: “ألا تشعر بالدفء في هذه العائلة الكبيرة؟”. بل والأدهى، يسبقني إلى مكان عملي؛ يقف هناك بجوار المدير يهمس له: “اذكر يوم تأخره، لا تنس خصم ساعة الغياب، دمه رخيص..”. راتبي الشحيح قربان يقدمه على مذبح وجوده.
منذ متى التصق هذا القرين بي؟ لا أذكر لحظة لم يكن فيها نابضًا في عروقي. ربما ولدنا معًا في ليلة باردة، أو لعله تسلل من شق في جدار الفقر حين فتحت عيناي على هذا العالم.
منذ عرفت وعيي، وهو جاثم في زوايا نفسي؛ رفيق درب لا يُرحل، وجهًا قبيحًا لعملة نحاسية أنا ظهرها المهان. الفارق الوحيد أنني أراه دائمًا بابتسامته الساخرة، بينما هو لا يرى سوى ظهري المنحني تحت أعبائه.
“أبي لازم أباك في جوعه، وجدي رافق جدك في ذلته”، يهمس في أذني كلما حاولت الفكاك. ثم يضيف متلذذًا بمرارتي: “لذا كن على يقين أن ابني الصغير سينمو ليكون رفيق درب ابنك ذلك الرضيع؛ سيلازمه في كل خطوة، في كل نجاح كاذب، وفي كل فشل مر”. ثم قال بنبرة تقدير زائف: “إنها سنة الوجود، سنة لا تتخلف ولا تتبدل”.
حاولت الهروب بعيدًا.. إلى مدينة لا يعرف اسمها. ظننت أنني قطعت ما يربطني به إلى الأبد. لكن بعد أشهر قليلة رأيته يطرق باب عملي الجديد، يتعرف على زملائي، ثم ينسج خيوط صداقة وثيقة مع مديري وصاحب العمل. أخبرهم بحكايات “صداقتنا العريقة” التي بدأت في مهدي! كيف سرقت رغيف خبز في السادسة، كيف هربت من المدرسة في الثانية عشرة.
طردت من عملي الجديد قبل أن أُكمل الشهر الرابع، بينما هو ينتظرني عند الباب يتأبط ذراعي قائلًا: “هيا بنا إلى البيت.. إلى جنتنا الصغيرة.. إلى الرائحة التي تعرفها جيدًا.. إلى حضن المجاري الدافئ!”.
رافقني في زيارتي للمدير السابق. رأيت الأخير يبتسم وهو يسلمني ورقة بحساب الديون؛ أشار إليه وهو يقول: “أخبرني بكل شيء.. عليك السداد أو السجن”.
انهمرت دموعي: “لماذا أنا؟ لماذا يُقدر لرزقي أن يأتيني عبر سم إبرة الخياط؟
أقف كالمسحور أمام حانوت الجزار، تلك اللحوم الحمراء المعلقة بريق حياة محرمة.. كم مرة تخيلت يدي تمتد لتأخذ قطعة منها؟ كم مرة حلمت بأن أملأ معدتي بطعام لا يكون من فضلات السوق؟
ما هو طعم اللحم؟ هل الأغنياء يعرفون أن للجوع لونًا في العينين؟ وطعمًا مرًا في الحلق؟ هل يوجد عالم آخر بلا جوع وعذاب؟ هل سيكون لنا نصيب في الجنة؟ أم نطرد منها كما طردنا من جنة الدنيا؟
لماذا يتزوج الفقراء؟! لماذا ينجبون الأطفال؟ ما ذنب الأطفال ليرثوا السجون؟!”.
ذات ليلة يائسة حاولت قتله. قبضت على عنقه بيدي المرتعشتين، ضغطت على رقبته بيداي حتى انتفخت عروقه وازرقت شفتاه وتصبب عرقي كالنهر. ظللت أضغط حتى يبست يداي وتوقفت أنفاسه.. لكنه فجأة انتفض واقفًا، ضحكته تهز الجدران، جلست أبكي بجانبه، احتضنني بقوة، ربت على ظهري وهمس في أذني: “ليس لك أحد سواي”. شعرت به يذوب في داخلي، يتسرب إلى عروقي، يصير جزءًا من دمي.. حاولت خنق ظلي فابتلعني الظلام.
اليوم، في حر الظهيرة القاتل، أقف في طابور طويل، أنتظر دوري لأحصل على “هبة العيد”: قطعة من لحم الأضحية. وهو بجواري، كالعادة، يهمس في أذني بنبرة عذبة سامة: “لا تقلق.. أوصيت الجزار بأن يختار لك قطعة خاصة.. بها عظم إضافي تليق بك”.
د. صبري غانم