في حقبة الثمانينات، برز جيل من الشعراء تميز بجرأته الفائقة في التعبير عن مشاعر اليأس والإحباط التي كانت تعكس بدقة الواقع السياسي والاجتماعي المضطرب في ذلك العصر. فقد تجاوز هؤلاء الشعراء الموضوعات التقليدية التي سادت في الأغاني، وغاصوا في أعماق النفس البشرية المعذبة، ليكشفوا عن مشاعر الحزن واليأس التي كانت تسيطر على الكثيرين، وتشكل جزءًا من تجربتهم الإنسانية.
وفي أغنية “آسف على الأحلام”، نجد تعبيرًا فنيًا قويًا ومؤثرًا عن هذه المشاعر المعقدة. يعبر الشاعر وائل هلال ببراعة فائقة عن يأسه العميق من الواقع السياسي والاجتماعي في مصر في ذلك الوقت، ويشعر بالعجز المرير عن تغييره. لكن هذا الشعور بالعجز ليس بدعوة للاستسلام، بل هو فضح لقبح الأوضاع السائدة التي جعلت الحلم نفسه خطأ، وجعلت الشاعر يندم على مجرد الحلم في مجتمع يمنع الأحلام ويرفض الحب ويكره القرب.
يقول الدكتور في علم النفس، مارتن سليجمان، إن الشعور بالعجز هو أحد الأسباب الرئيسية للاكتئاب. وفي أغنية “آسف على الأحلام”، نجد أن الشاعر يعبر عن هذا الشعور بالعجز عندما يقول “آسف على الأحلام”، وكأن الحلم نفسه هو الخطأ. لكن في سياق الأغنية، يبدو أن هذا الشعور بالعجز ليس بديلاً عن السعادة، بل هو تعبير عن اليأس والإحباط الذي يثير الغضب والاستياء، ويدفع المتلقي لتغيير هذا الواقع المرير.
إن الشاعر لا يدعو إلى الاستسلام للواقع، بل يحاول أن يوقظ فينا روح المقاومة والرفض، ويجعلنا نرفض هذا الواقع الذي يقتل الأحلام ويخنق الحب. كما يقول الشاعر “الحب زي الآلام إحساس بيتغير”، هذه الجملة تعبر عن عدم ثبات المشاعر الإنسانية، وكيف يمكن أن تتغير بفعل الظروف والمواقف. وفي هذا السياق، يشير الدكتور في علم النفس، آرون بيك، إلى أن الشعور بالندم والأسف يمكن أن يؤدي إلى مشاعر الاكتئاب واليأس، حيث يصبح الفرد عالقًا في دوامة من التفكير السلبي، ويجد صعوبة في التحرر من مشاعر الذنب والأسف.
وفي سياق الأغنية، نجد أن الشاعر يعبر عن هذا الشعور بالندم والأسف، عندما يقول “آسف على الأحلام كان عمرها قصير”، هذه الجملة تعبر عن الشعور بالندم على الأحلام التي بقيت حبيسة الأذهان، وعن الأسف على الوقت الذي ضاع في الحلم، دون أن يتحقق شيء منه. إنها لحظة من التأمل العميق، حيث يعود الشاعر إلى ذكريات الماضي، ويعيد تقييم أحلامه وطموحاته، ويشعر بالأسف على ما فات.
إن أغنية “آسف على الأحلام” هي تعبير فني قوي ومؤثر عن مشاعر اليأس والإحباط، وهي دعوة للتفكير في ضرورة تغيير الواقع الذي أدى إلى هذا الشعور بالندم والأسف. إنها أغنية تثير فينا الغضب والاستياء، وتدفعنا إلى التفكير في ضرورة تغيير هذا الواقع، والبحث عن مستقبل أفضل.
من حيث اللحن، فإن فاروق الشرنوبي قد أثرى الوجدان الموسيقي في هذه المرحلة بلحن رائع يعبر عن مشاعر الأغنية بعمق وصدق. إن فاروق الشرنوبي يعد أحد الملحنين البارزين في مصر، وقد أسهم بشكل كبير في إثراء الموسيقى العربية بألحان معبرة وصادقة. في أغنية “آسف على الأحلام”، يعكس اللحن الحزن واليأس الذي تعبر عنه الكلمات، ويضيف بعدًا إضافيًا من العمق العاطفي للأغنية. إن اللحن هو جزء لا يتجزأ من الأغنية، حيث يعزز من تأثير الكلمات ويعبر عن المشاعر بطريقة فنية رائعة. لقد استطاع الشرنوبي أن ينسج لحنًا جميلًا يعبر عن عمق المعاني والموضوعات التي تطرحها الأغنية، ويجعل المستمع يعيش تجربة عاطفية فريدة. إن عبقرية فاروق الشرنوبي الفنية تتجلى في قدرته على خلق ألحان تعبر عن مشاعر وأفكار الناس بطريقة صادقة ومعبرة، مما يجعل أعماله الفنية خالدة في وجداننا.
في الختام، أغنية “آسف على الأحلام” من روائع المطرب الكبير مدحت صالح، وقد أداها بكل إحساس وعمق، مما يجعلنا نتساءل عن سبب عدم تقديره لأغانيه الخاصة التي تعكس تجربته الفنية الفريدة في الثمانينات. لقد كان مدحت صالح جزءًا من جيل من الشعراء والملحنين الذين صنعوا تاريخًا فنيًا غنيًا في تلك الفترة، ولكن يبدو أنه لا يدرك قدر هذا التاريخ الفني العظيم الذي صنعه مع زملائه من الشعراء والملحنين.
إن حرصه على غناء الأغاني القديمة لمطربين راحلين في حفلاته بدار الأوبرا يثير التساؤل عن أولوياته الفنية، فبدلاً من التركيز على أغانيه الخاصة التي تتميز بكلماتها العميقة وألحانها الرائعة، يجد مدحت نفسه منجذبًا نحو أغانٍ قديمة، وكأنها هي التي تعبر عن هويته الفنية الحقيقية. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن من سيغني روائع مدحت صالح على المسرح؟ إذا كان مدحت صالح سيغني لكارم محمود ومحمد قنديل وعبد الحليم حافظ، فمن سيعبر عن مشاعر وأفكار جيلنا التي صاغها شعراء وملحنون الثمانينات؟
ألا يدرك مدحت صالح عظمة تاريخه الفني الذي أبدعه في أغانيه الخالدة في الثمانينات؟ وهل سمع يومًا عبد الحليم حافظ يغني لصالح عبد الحي أو عبده الحامولي؟ إن الفنان الحقيقي يعتز بفنه ويعرف كيف يقدّر أعماله الخاصة، ويحافظ على إرثه الفني الذي يعتبر جزءًا من ذاكرة الوطن.
لذا، أرجو من مدحت صالح أن يعيد إحياء تراثه الفني الغني، ففي أغانيه القديمة روائع تستحق أن تقدم للأجيال الجديدة، وتؤكد مكانتها الفنية الراسخة في وجداننا. إن إعادة إحياء هذا التراث الفني ليس فقط حقًا لمدحت صالح، بل هو واجب أدبي وفني، لكي يبقى الفن الراقي حيًا في قلوبنا وأذهاننا.