في بلد يعاني فيه الملايين من وطأة المرض، تحولت رحلة البحث عن الدواء من مجرد ضرورة طبية إلى معركة يومية يخوضها المرضى وذويهم وسط زحام الأزمات الاقتصادية.
مرضى السرطان يدفعون ثمن نقص الأدوية وحرب الأسعار
لم يعد الدواء سلعة متاحة، بل حلمًا مؤجلًا قد يتوقف عليه مصير حياة بأكملها، وفي قلب هذه المعركة الصامتة، يظهر وجه الأزمة الحاد داخل المستشفيات، حيث يتحول نقص الأدوية إلى خطر مباشر على حياة آلاف المرضى، وخاصة أولئك المصابين بأمراض خطيرة كالأورام، وهؤلاء المرضى لا يملكون رفاهية الانتظار أو التأجيل، فكل جرعة دواء، وكل موعد جلسة علاج، قد يصنع الفارق بين الحياة والموت.
خلل في البروتوكولات.. والنتيجة قد تكون كارثية
أكدت طبيبة في معهد الأورام، فضّلت عدم ذكر اسمها، أن التأخير في مواعيد العلاج أو غياب أحد مكونات البروتوكول العلاجي قد يتسبب في فقدان فعالية العلاج بالكامل
وأوضحت طبيبة معهد الأورام لـ”الحرية”، أن مرضى الأورام يتبعون خططًا علاجية دقيقة تُعرف بـ”البروتوكولات”، تتضمن أنواعًا معينة من الأدوية تُعطى في توقيتات محددة، وأي خلل بسيط في هذا النظام الصارم قد يؤدي إلى فشل العلاج تمامًا.
وأضافت: “مش بنقدر نأخر أو نستبدل أي جرعة، البروتوكول معمول بناءّ على دراسات وتجارب، مش على اجتهادات شخصية”، مضيفة أنه غالبًا ما تضطر الفرق الطبية لإجراء تعديلات اضطرارية خارجة عن إرادتهم، فقط لأن الدواء المطلوب غير متوفر.
دواء مفقود وبروتوكول ناقص
وأشارت الطبيبة، إلى أن النقص الحاد في أدوية الكيماوي، خاصة المستخدمة في أمراض الدم، أصبح مشهدًا متكررًا، ففي بعض الحالات، يكون المتوفر دوائين فقط من أصل خمسة ضمن بروتوكول العلاج، وفي هذه الحالة، يُحرم المريض من فرصة علاج فعّالة، ويُعرض جسمه لمواد قد لا تكون كافية لمحاربة الورم.
وتابعت: “أحيانًا بنشوف تحسّن طفيف وبعدين انتكاسة، وكل ده بيرجع لعدم الالتزام بالبروتوكول الأصلي بسبب نقص الأدوية، والحالة النفسية للمريض تتأثر أيضًا، فشعور الخوف من عدم الحصول على العلاج يفاقم الألم ويزيد من الضغط على أسر المرضى.
حرب الأسعار وتعثر الاستيراد
من جانب آخر، أشارت “دينا” طبيبة صيدلانية، إلى أزمة الدواء إلى التحديات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، خاصة ما يتعلق بأزمة الدولار وتأثيرها على الاستيراد.
وأضافت: “بعض الأدوية بتكون مستوردة بالكامل، وبعضها بيُصنع محليًا لكن بمكونات مستوردة، وده كله بيتأثر بسعر الدولار”.
وتابعت أن شركات الأدوية باتت تطالب برفع أسعار المنتجات لتعويض فرق العملة وتكاليف المواد الخام، والنتيجة بعض الأدوية تختفي من السوق في انتظار الموافقة على السعر الجديد، ما يخلق فراغًا خطيرًا في سلسلة الإمداد الدوائي.
التأمينات والدواء المفقود
وتشير “دينا”, إلى أن أنظمة التأمين الصحي، خاصة الخاصة منها، تُسهِم في استهلاك كميات ضخمة من الأدوية، أحيانًا دون حاجة فعلية.
وأوضحت أن بعض شركات التأمين الكبرى تصرف كميات كبيرة من الدواء للفئات عالية الإنفاق كجزء من عروض “VIP”، وهو ما يؤدي إلى استنزاف مخزون الأدوية بشكل غير عادل، متابعة: “في مريض بيصرف 10 علب، ومريض تاني مش لاقي علبة واحدة.. التوزيع غير عادل، ومفيش رقابة فعالة”. ومع غياب الرقابة الصارمة، تدخل الصيدليات أحيانًا في لعبة الربح بدلًا من خدمة المريض.
العلبة تغيرت.. والسعر تضاعف
وكشفت أن “بعض شركات الأدوية تلجأ لتكتيك يبدو بسيطًا لكنه فعّال وهو تغيير شكل العلبة أو اسم المنتج بهدف إعادة تسجيله بسعر جديد، وهذا الأسلوب يسمح لها بتجاوز القوانين التي تُحدد هامش ربح محدود للأدوية القديمة”.
واستطردت أن “الدواء هو نفسه، لكن العلبة اختلفت، وبقى بيتباع بسعر أعلى مرتين أو تلاتة، وكل ده تحت غطاء قانوني، متابعة أنه في الوقت الذي تحقق فيه الشركات أرباحًا قياسية، يدفع المريض الثمن مضاعفًا”.
دواء في قبضة السوق.. ومريض على قائمة الانتظار
أزمة الدواء في مصر لم تعد مجرد أزمة صحية، بل تحولت إلى قضية حياة أو موت، يُحاصر فيها المريض بين عجز المستشفيات، وتخزين التجار، وسعي الشركات للربح، وضعف الرقابة.
آلاف المرضى ينتظرون عودة دواء قد لا يأتي، بينما يواصل البعض علاجهم بنصف وصفة، أو بدواء لا يحقق المطلوب، أو بأسعار لا يمكن تحملها.
الخطر الأكبر لا يكمن فقط في غياب الدواء، بل في غياب العدالة الصحية، وفي صمتٍ يطيل عمر الأزمة ويقصر عمر المريض، ومع غياب التدخلات الحاسمة من الجهات المعنية، تبقى الأرواح رهن الرفوف الخالية، بينما يدور الزمن دون رحمة.