تحقيق: محمد مرزوق
على مدار العقد الماضي، عانت الليرة السورية من انهيار متسارع، حيث أصبحت العملة واحدة من أبرز ضحايا الحرب الطويلة التي عاشتها سوريا.
ومع تآكل الاقتصاد الوطني وتدمير البنية التحتية، تضاعفت معاناة المواطنين بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، إلا أن الحديث عن تحسن الاقتصاد السوري وقيمة الليرة بات يتزايد بعد سقوط النظام السوري، ما أثار تساؤلات حول مستقبل البلاد الاقتصادي وآفاق التعافي.
في هذا التقرير الشامل، نستعرض تطورات الأوضاع الاقتصادية في سوريا، مدعومة بآراء الخبراء والسياسيين، إضافة إلى شهادات مواطنين سوريين، لنقدم صورة دقيقة ومتكاملة عن هذه المرحلة الحساسة.
الليرة السورية قبل سقوط النظام
لسنوات طويلة، كانت الليرة السورية عنوانًا بارزًا للمعاناة الاقتصادية التي عاشها الشعب السوري.
فمنذ اندلاع الحرب في عام 2011، تهاوت قيمة العملة الوطنية بشكل غير مسبوق، وتراجعت قدرتها الشرائية، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين.
ومع سقوط نظام بشار الأسد، عاد الأمل إلى نفوس السوريين بأن يشهدوا انتعاشًا اقتصاديًا يعيد الاستقرار إلى حياتهم اليومية.
وشهدت الليرة السورية تدهورًا قياسيًا في ظل حكم النظام السوري حيث تراجعت من 50 ليرة مقابل الدولار في عام 2011 إلى ما يزيد عن 15,000 ليرة للدولار الواحد بحلول منتصف 2024، هذا الانخفاض الحاد جاء نتيجة عوامل متعددة أبرزها ما يلي:
– التدخل العسكري والسياسي: فتكلفة الحرب الضخمة، والعقوبات الاقتصادية الدولية.
– الفساد المؤسسي: تحويل الموارد الاقتصادية لصالح النخب السياسية والعسكرية عوضًا عن تحسين الخدمات العامة.
– انخفاض الإنتاج المحلي: توقف العديد من القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة.
– العقوبات الدولية:
فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات شديدة، شملت حظر التعاملات المالية والنفطية.
– تدمير البنية التحتية:
دُمرت قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة والنقل بفعل القصف والمعارك.
– تراجع الإيرادات الحكومية:
انخفضت عائدات النفط التي كانت تمثل 25% من الدخل القومي.
– التأثير المباشر على المواطنين:
مع انهيار العملة، ارتفعت تكلفة المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أظهرت تقارير الأمم المتحدة لعام 2023 أن 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر.
فبحلول عام 2023، بلغت قيمة الليرة السورية مستويات غير مسبوقة من التدهور، حيث سجلت 15,500 ليرة مقابل الدولار الواحد، مقارنة بـ50 ليرة فقط عام 2011.
ووفقًا لتقارير البنك الدولي، عانى الاقتصاد السوري من انكماش بنسبة 60% منذ 2011.
مرحلة ما بعد النظام
مؤشرات إيجابية لتحسن الليرة السورية، فمع سقوط النظام، شهدت الأسواق السورية بوادر انتعاش تدريجي، ويعود ذلك إلى عوامل عدة، منها:
– رفع العقوبات الاقتصادية:
بدأت القوى الدولية تخفيف القيود المفروضة على الاقتصاد السوري، وتمثل ذلك في تصريحات الاتحاد الأوروبي حيث أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن العقوبات على سوريا “ستخفف تدريجيًا لتشجيع الاستقرار وإعادة الإعمار”.
– تحسن التجارة الخارجية:
سمح رفع بعض القيود بعودة تدفق السلع والعملات الأجنبية إلى السوق السورية، مما عزز سعر الصرف.
– إعادة الثقة المحلية:
عودة رؤوس الأموال المهاجرة والاستثمارات السورية من الخارج.
– تحسن الوضع الأمني:
تراجع النزاعات المسلحة وفتح الطرق التجارية بين المحافظات.
– الدعم الدولي:
إطلاق برامج دعم اقتصادي بقيادة الأمم المتحدة ودول عربية وغربية لإعادة إعمار سوريا.
– استعادة النشاط الزراعي والصناعي:
عاد إنتاج القمح، الذي كان يشكل عصب الاقتصاد الزراعي، إلى معدلات قريبة من فترة ما قبل الحرب، بزيادة بلغت 40% خلال عام 2024.
استئناف تشغيل المصانع في مناطق حلب وريف دمشق أدى إلى تحسين الإنتاج المحلي وخفض الواردات.
آراء الخبراء الاقتصاديين
الدكتور محمود العلي، خبير اقتصادي سوري، يقول إن تحسن الليرة السورية ليس معجزة، لكنه نتيجة طبيعية لتحسن الثقة في النظام الاقتصادي الجديد. لقد شهدنا عودة النشاط الزراعي في الشمال السوري، وتحركًا جديًا لإعادة تشغيل معامل حلب.
وأوضح الخبير الاقتصادي السوري، أنه إذا استمرت هذه السياسات، فإن الليرة قد تستقر عند مستويات تتراوح بين 2,000 و3,000 ليرة للدولار خلال العامين المقبلين.
من جانبها أفادت جينيفر كارتر، محللة اقتصادية دولية، بأن الاستقرار السياسي الجديد في سوريا سيجذب الاستثمارات الدولية، لكن التحسن الحقيقي لليرة يعتمد على القدرة على إصلاح النظام المصرفي المتهالك وتوفير بيئة قانونية آمنة للمستثمرين.
من جانبه أكد الدكتور أحمد السعيد، خبير اقتصادي سوري مقيم في لندن، أن تحسن الليرة السورية كان متوقعًا، ولكنه ليس مضمونًا على المدى الطويل، مضيفًا أن التحدي الحقيقي يكمن في بناء مؤسسات مالية مستقرة وتفعيل قوانين اقتصادية شفافة. الإصلاح السياسي والاقتصادي يسيران جنبًا إلى جنب.
فيما قالت آن ماري لوغان، محللة اقتصادية في البنك الدولي، إن “سوريا تتمتع بإمكانات اقتصادية هائلة، من إعادة إعمار المدن إلى استغلال الموارد الطبيعية، يمكن للبلاد أن تشهد انتعاشًا اقتصاديًا سريعًا، إذا تم توظيف الدعم الدولي بشكل سليم”.
من جانبه قال المهندس محمد قاسم، مستشار اقتصادي في بيروت، إن عودة السوريين المغتربين بأموالهم واستثماراتهم يشكل عاملًا رئيسيًا في تحسين الاقتصاد، لكن ما زلنا بحاجة إلى إصلاحات واسعة لإقناع المستثمرين الأجانب بالعودة.
آراء سياسيين
وفي السياق ذاته، أكد كمال درويش، مسؤول معارض سورى، أن “الليرة السورية تحسنت لأننا تخلصنا من نظام كان ينهب ثروات البلاد، والمرحلة القادمة ستكون صعبة، لكنها تحمل الأمل في بناء اقتصاد قوي”.
وأضاف وزير الاقتصاد التركي السابق علي باباجان، أن سوريا لديها إمكانيات كبيرة إذا تم استغلال مواردها بشكل صحيح، والتحسن في قيمة العملة هو مؤشر على بداية طريق طويل من الإصلاح.
وأشار الدكتور برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري السابق، إلى أن تحسن الليرة السورية يعكس بداية مرحلة جديدة من الأمل، لكنه لا يكفي، والشعب السوري بحاجة إلى إصلاحات سياسية حقيقية تضمن استقرارًا دائمًا.
وقالت ريما فليحان، ناشطة سياسية: “لقد رأينا كيف أن سقوط النظام كان خطوة أولى نحو استعادة الكرامة للشعب السوري، والتحسن الاقتصادي هو النتيجة الطبيعية لاستعادة السيادة الوطنية”.
شهادات مواطنين سوريين
وقال المهندس محمد قاسم، مستشار اقتصادي في بيروت، إن عودة السوريين المغتربين بأموالهم واستثماراتهم يشكل عاملًا رئيسيًا في تحسين الاقتصاد.
وأضاف محمد الأحمد، تاجر من دمشق، أنه “بعد سقوط النظام، لاحظنا انخفاض أسعار بعض السلع الأساسية، والأوضاع تتحسن ببطء، لكننا بحاجة لمزيد من الدعم الحكومي لتثبيت الأسعار”.
من جانبها قالت رنا إبراهيم، موظفة حكومية: “كنت أعيش على راتب لا يغطي نصف احتياجاتي، اليوم، مع استقرار سعر الصرف، أصبح الوضع أفضل قليلاً، وأتمنى أن تتحسن الأمور أكثر”.
وأضاف نزار الحلبي، صاحب متجر في حلب: “قبل سقوط النظام، كنا بالكاد نستطيع شراء البضائع بسبب ارتفاع الأسعار، الآن، الأمور بدأت تتحسن ببطء، وأصبح بإمكاننا تأمين احتياجاتنا الأساسية”.
وأضافت رولا الكردي، ربة منزل من دمشق: “مع تحسن الليرة، شعرت بالفرق في أسعار السلع الأساسية. لكننا ما زلنا بحاجة إلى دعم أكبر لتحسين حياتنا”.
وتابع زياد الطرابلسي، مزارع في إدلب: “الأرض عادت لنا بعد سنوات من المعارك، اليوم نزرع القمح والخضار، ونبيعها بأسعار أفضل من قبل.. هذه بداية جديدة لنا”.
الأرقام والمؤشرات الاقتصادية
– سعر صرف الليرة السورية: تحسن بنسبة 60% خلال الأشهر الستة الأولى بعد سقوط النظام، ليصل إلى 4,500 ليرة مقابل الدولار.
– معدل التضخم: انخفض من 300% عام 2023 إلى 120% منتصف 2024.
– إنتاج القمح: ارتفع بنسبة 30% بعد عودة الأراضي الزراعية للعمل.
– إعادة الإعمار: خصصت الأمم المتحدة حزمة مالية ضخمة لدعم إعادة بناء سوريا.
– تحديات التحسن الاقتصادي: رغم المؤشرات الإيجابية، يواجه الاقتصاد السوري تحديات ضخمة.
– إصلاح النظام المصرفي: تحتاج البلاد إلى تحديث القطاع المالي لضمان استقرار العملة.
– إعادة بناء البنية التحتية: تكاليف إعادة الإعمار تُقدر بـ 400 مليار دولار.
– ديون خارجية: تراكمت ديون ضخمة على البلاد بسبب الحرب.
– مكافحة الفساد: القضاء على الفساد المؤسسي يمثل تحديًا كبيرًا.
إن تحسن الليرة السورية بعد سقوط النظام هو مؤشر إيجابي على بداية عهد جديد لسوريا، حيث تتعافى البلاد تدريجيًا من آثار الحرب.
ورغم التحديات الجسيمة، فإن الدعم الدولي والتكاتف الوطني يمثلان مفتاحًا لإحياء الاقتصاد السوري.
وسيظل الطريق طويلًا وشاقًا، لكن الأمل في بناء مستقبل مشرق يبدو أقرب من أي وقت مضى.