بخلاف سعادتي لأجله كصديق عزيز، لم أشعر بشيء يُذكر، حين أعلن الأستاذ عمرو بدر عن إطلاق موقع صحفي جديد، سمَّاه- بما يتسق مع طبيعته- الحرية.. تلك الكلمة التي لم تعد تعني شيئًا– تقريبًا- بالنسبة إلي… لا أشعر تجاهها بشيء على الإطلاق.
لمن لا يعلم فقد كنت صحفيًا يومًا ما، بل أيام عدة في الواقع، أغلب عمري الوظيفي إن أردت الدقة، وكم كانت مؤثرة تلك الكلمة، ثمانِ سنين على قدر ما تسعفني ذاكرتي، خمسة وثلاثون ألفًا وأربعون يومًا، يا إلهي، لقد تأثرت بها لفترة أطول من صديقتي السابقة التي تزوجت منذ أسابيع شابًا أقل وسامة مني بمراحل لا يمكنني أن أحصيها!
لم يستوقفني في الأمر كله سوى ما “لم أشعر به”… ما كان، ولم يعد، لم يعد دماغي ينقل إشارات عصبية ما حين يستقبل تلك الكلمة، “الحرية”، أيًا كان المقصد منها، هي لم تعد تعني شيئًا على الإطلاق وحسب.. ثمة ما يهم الآن أكثر، ثمة ما ينبغي البحث عنه أولاً، هناك موارد لا بد أن تُخلق، وهناك أموال لا بد أن تنفق، الكثير منها، طوال الوقت، وبدون أسباب، الطبقات الاجتماعية تذوب فيما بينها يومًا بعد يوم، حتى صرنا نرى الشاب مكتمل الأناقة مرتديًا “البراندات”، حاملاً سجائره المستوردة حمراء اللون بقبضة يده و”الأيفون”ذي الكاميرات الثلاث فوقها، يستوقف ميكروباصًا على الدائري! لأن رفاهية الـ”أوبر” لم تعد واردة، فلك وحدك أن تتخيل ما يحدث لمن لم تكن موارده توفر له رفاهية الميكروباص من الأساس!
إنه واقع جديد بالكلية، شرس في المطلق، صادم أحيانًا، ومباغت في كل حين، لا صلة لليوم بالأمس، لم يعد واقعنا نتيجة لشيء ولا سببًا لغيره، صار مختلفًا وحسب، في ظني أن كل مفسر لما نمر به اليوم بشكل عام، هو مدعٍ لا محالة، أو مُضلـَّل على أحسن الافتراضات، لا أحد، وأعني “لا أحد”، قادر على تفسير شيء أو التنبؤ بغيره، نحن نمر بمرحلة مختلفة، هذا كل ما يمكن تأكيده، لكن كيف هي؟ كيف نواجهها؟ كيف نهرب إن فشلنا؟ كيف ننجو إن ضاقت بنا السبل؟ بالأحرى صارت “كيف” أداة استفهام لا إجابة لها في واقعنا الجديد، فـ”كيف“ تتطلب تفسيرًا، وهذا هو العائق، لا أحد يملك تفسيرًا!
لم تعد تلك العبارات القديمة ذات معنى، هناك معانٍ جديدة لواقع جديد علينا أن نجد موقعنا بداخله أولاً قبل أن نحدد اتجاهاتنا، هناك صورة مغايرة لما مضى، لذلك حتى وإن بقيت آثاره بداخلنا، فهي لا تعدو كونها كذلك.. بداخلنا، أما اليوم فالمتطلبات تختلف، والأولويات لم تعد كما كانت، وإن خيرتني بين زيادة راتبي وارتفاع سقف الحريات، لن أتردد لحظة في الوقوف إلى جانب راتبي، لأنك لتواجه واقعك الذي اختلف، ستجبرك المواجهة على التغيير شئت أم أبيت، لذلك كن واقعيًا، وانجُ.
لا تكترث للنصائح،انجُ فحسب، تصرف وانجُ،احذر من كل المحاذير، لا تسأل أحد عن الوجهة فهو مثلك، لا يعلم وجهته مهما ادعى غير ذلك، لا ترتكب الحماقات، مهما كانت الحياة مملة دون ارتكاب الحماقات، ولا داعي لأي جدال في أي شأن، حاول أن تدرك كل شؤونك أولاً إن استطعت، وإن لم تستطع فلا بأس، واعمل، فاعمل، ثم اعمل، لتعش أولاً ثم نرى لاحقًا ما الذي ستعيشه بالضبط.