عندما عُرض فيلم باب الحديد للمرة الأولى عام 1958، كاد الجمهور أن يكسر قاعة السينما في الحفلة الصباحية بعد 20 دقيقة فقط من بدايته، وعن هذه الواقعة يقول عبد الحى أديب كاتب سيناريو الفيلم: «آخر ما كنت أتوقع أن يفشل فيلمي «باب الحديد» تجاريًا هذا الفشل الذريع في ذلك الوقت».
تدور أحداث فيلم «باب الحديد» حول «قناوي» بائع الجرائد في محطة القطار، غير المتزن عقليًا، وحبه لـ«هنومة»، لكنها من جانبها تُشفق عليه، وحين تقرر «هنومة» الزواج من حبيبها “أبو سريع”، وتبدأ بالفعل في استعدادات الزواج، يقرر قناوي قتلها.
يروي البعض أن أحد المشاهدين بصق على يوسف شاهين بعد مشاهدة الفيلم، لكن المذهل حقًا هو النجاح الذي حققه «باب الحديد» بعد هذا الفشل الجماهيري القاتل، حنى أنه خُلِّد في ذاكرة السينما المصرية.
لا أبطال هنا
يقوم الفيلم بشكل أساسي على القضاء على فكرة البطولة، التي رسخت لعقود في ذاكرة الجمهور، من قبل النماذج المُكررة والتي وصلت إلى حد الابتذال في الأفلام المصرية، وتقوم أغلبها على فكرة البطل الواحد، وعلى أحادية شكل الخير والشر، فالبطل هناك هو الخير، الذي يحارب دائمًا من أجل قيمة عليا سامية، أو حتى هو البطل الفهلوي ذا الحس الفكاهي، والذي يأخذ الخير إلى صفه بشكل أو بآخر.
أما البطلة الأولى فهي بطبيعة الحال في الغالب تجمعها علاقة حب بالبطل الأول، وتقف في كفة الخير مثله تمامًا، وتتسم بسمات من الوداعة، والرقة، وغيرها من الصفات التي حبُست في داخل النساء لزمن طويل.
على الجانب الآخر كان علينا أن نرى الشرير، وحتى إن لم يكن شريرًا ينوي التدمير وفرض سيطرته، فهو بكل تأكيد شرير ينحاز لقيم لا أخلاقية أو يراها مؤلف الفيلم ومخرجه بهذا الشكل.
هذه الفكرة كسرها شاهين بشكل جزئي في فيلمه السابق على «باب الحديد»، وهو فيلم «صراع في الوادي»، حينما أُعدم أبو البطل ظلمًا، ولم يتمكن أحد من إنقاذه في آخر لحظة كما هو متوقع.
ولكن إن عدنا إلى فكر اللا بطولة التي يدور حولها «باب الحديد»، فسنجد أن الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية قناوي، وربما كانت الاستعانة بصورة فريد شوقي بهذا الشكل البارز في الصورة الدعائية للفيلم على الرغم من صغر حجم دوره، مجرد خدعة لجذب الجمهور إلى صالة العرض.
ففي النهاية البطل الأساسي هو قناوي، وهو أبعد ما يكون عن الشكل المعروف للبطل في السينما المصرية آنذاك، هو مضطرب عقليًا، يعاني من صعوبات في النطق، ومن إعاقة في إحدى ساقيه، وهو فوق ذلك يحاول تحطيم قصة الحب التي تنشب بين البطلين الجمهوريين المحبوبين هنومة وأبو سريع، ولكن المخرج لا ينأى عن أن يجعل المشاهد يتعاطف مع قناوي، لذا فهو مجرد من فكرة الخير والشر المُطلقان، إنه شخصية أكثر تعقيدًا من ذلك النمط البسيط الذي كان سائدًا وقتها.
حتى قصة الحب التي يحويها الفيلم ليست ككل قصص الحب المثالية التي اعتادت الشاشة الكبيرة عرضها في ذلك الوقت، فأبو سريع ليس البطل الرومانسي الشجاع، صحيح أنه يمكن أن يُعد رمزًا عماليًا، ولكنه في علاقته مع هنومة لا يتورع عن إهانتها، وضربها في بعض الأحيان.
حتى شخصية هنومة نفسها، ليست بنت البلد الجدعة الجميلة التي تفتن الجميع بشكل تام، فهي على الرغم من حبها لأبو سريع وقرارها بالزواج به، تحاول في أحد المشاهد استغلال قناوي ليعطيها عقد ورثه عن أمه.
كل تلك التناقضات في الشخصيات الرئيسية، بالإضافة إلى مساحة دور فريد شوقي الصغيرة، هي التي سببت ذلك التوتر والسخط بين الجمهور آنذاك، وهي كذلك سببًا من الأسباب التي أعطت الفيلم أهميته، لأنها جعلت شخصياته أكثر إنسانية.
الواقعية في سينما يوسف شاهين
الفيلم مثالًا بارزًا على الواقعية في سينما يوسف شاهين، فشخصية قناوي تنأى عن أن تكون مجرد شخصية لمختل يتحول إلى قاتل، إنه في النهاية إنسان معدم، يعيش تحت وطأة ظروف صعبة وقاسية، تسلبه حقه في الجنس والحب، وتجعل منه شبه مسخٍ في نهاية المطاف.
أما الفيلم، فيُصور من خلال أحداثه التي تدور في محطة القطار العديد من فئات المجتمع المصري حتى ولو بشكل خاطف، وهو يتعرض أثناء سير الأحداث إلى قضايا العمال كذلك، كاتخاذ المحطة مكان رئيسي وأوحد طوال مشاهد الفيلم، وتصويرها بتلك الواقعية جعل للفيلم نكهته الخاصة، والتي أبرزتها أيضًا اللغة السينمائية المميزة لأعمال شاهين منذ بدايته.
عن باب الحديد
حصد «باب الحديد» العديد من الإشادات العالمية ودخل قائمة مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وقال الناقد دينيس شوارتز عنه: «امتزجت الواقعية الحديثة بالرومانسية، والكوميديا، بل والموسيقى في هذا الفيلم المتكامل، الفيلم نقطة تحول كبيرة في مسيرة مخرجه يوسف شاهين ووضعه على الخريطة العالمية».
وقال عنه الناقد جوناثان روزينباوم: «تلك التحفة الفنية ربما هي أشهر أفلام شاهين بالنسبة للمصريين، وتشابك رائع بين القصص في المحطة تحت أكثر من فئة من فئات الأفلام، فالفيلم في بعض المشاهد تجده فيلم موسيقي ثم يتحول إلى فيلم سلاشر -نوعية أفلام تتضمن مطاردة قاتل مختل عقليًا-، ثم يتحول الفيلم إلى فيلم واقعي حديث، وتجده أحيانًا كوميدي وأحيانًا مرعب، كما أن الأداء التمثيلي ليوسف شاهين كان رائعًا».
فيما رأي الناقد ديفيد بيكرسون أن باب الحديد هو ميلودراما مصغرة ترمز للانقسام بين الناس في الدولة، ليس فقط بسبب الظلم الاجتماعي، بل أيضًا بسبب الشرخ بين الثقافة والدين، والذي اتسع من قبل قوى خارجية، كما أن أداء شاهين التمثيلي كان تلقائيًا وحيويًا.
وعلق الناقد تريفور جونستون على الفلم قائلًا: «الفيلم يمكن وصفه بالكلمات الآتية، مُحكم للغاية وواقعي، وعنيف بشكل فعال، وحقيقي، وغير مبتذل».