حي «الأزبكية» من أعرق المناطق بالقاهرة، وهو حي ثري ثقافيًا، وتاريخيًا، ومن أبرز معالمه منطقة «سور الأزبكية»، التي تعتبر أشهر لبيع الكتب في مصر، وبشكل خاص الكتب المستعملة.
لكن ما التحولات التي مرت بها منطقة «الأزبكية» والسور خصوصًا ليصلا إلى الشكل الذي نراهما عليه الآن؟
لنتتبع معًا خيوط حكاية المكان، والتغيرات التي طرأت علىه منذ نشأتها، وعلى مدار سبعة قرون، مرورًا ببداية تكوين السور الشهير منذ أكثر من قرن من الزمان.
الأزبكية على مدار سبعة قرون
في القرن الرابع عشر، وبالتحديد في عام 880 هجريا الموافق 1475، بدأ الأتابك “أزبك” قائد جيوش السلطان «قيتباي» في تعمير قطعة أرض خربة كافئه بها السلطان، فحفر الأمير أزبك مجرى من الخليج الناصري ليوصل الماء إلى أرض الأزبكية (التي سميت باسمه)، ثم سكن هناك عقب إزالة تلال القمامة، وتمهيد الأرض، وتجديد حفر بركة بطن البقرة التي كانت تمر بالمكان، بالإضافة إلى تعمير القنطرة، وبناء رصيفًا حول البركة.
وفي العام 1495م كانت الأزبكية قد أصبحت حيًا سكنيًا كبيرًا، بعد أن بنى حولها الأهالي بيوتهم، واتجهوا للعيش فيها. ومع حلول عام 1517م احتل العثمانيون مصر، وبدأوا في التخييم حول بركة الأزبكية، ومن ثم شيد رضوان كتخدا قائد جنود مشاة العزب قصرًا كبيرًا على حافة البركة الشرقية في الأزبكية.
وبعد أكثر من قرنين، تحديدًا في عام 1798م عندما غزت الحملة الفرنسية مصر، أراد نابليون كسب ود المصريين عن طريق معرفة تعاليم الإسلام، لذا كان يتردد على دار الخليل البكري في ميدان الأزبكية، ليعلمه القرآن، ويعطيه دروسًا في آداب الإسلام وشرائعه، ومن ثم صار لنابليون نفسه بيتًا هناك.
عقب خروج الحملة من مصر بعدة سنوات، أي في عام 1805م، بعد تولي محمد علي الحكم، واختار الأخير ميدان الأزبكية ليكون قلبًا لعاصمته الجديدة، وأقام بها في بداية حكمه، لكنه تعرض إلى محاولة اغتيال على يد الجنود الأرناؤود، فعاد إلى قصره بقلعة الجبل، لكن ظلت الأزبكية مَسكنًا للطبقة العليا، ومركزًا للطبقة الحَاكمة، ومكانًا يعج بالفنَادق، والمتنزهات، كما حوت العديد من الدواوين، والمدارس.
ومرت العقود، وأصبح الخديوي إسماعيل حاكمًا لمصر، فكلف الخديوي المهندس الفرنسي “هوسمان” بإعادة تخطيط منطقة الأزبكية، حيث قال له: «أريدُ الأزبكية قطعةٌ من باريس، تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء – أي غابة بولونيا في باريس- وبين منطقة أوبرا باريس، والأحياء التُجارية حولها»، لذا خصصَ المهندس مساحة كبيرة من الأزبكية لتصبح على غرار غابة بولونيا الباريسية.
ردمت بركة الأزبكية عام 1864م، وأنشئت حديقة الأزبكية عام 1872م، وكانت مساحها وقتها 21 فدانًا، واحتوت الحديقة على جبلايات صناعية، وزُرعت فيها أشجارًا نادرة. كما أنشئت تحت إدارة الخواجة منسي دار الأوبرا الخديوية عام 1869م.
في أواخر القرن التاسع عشر -إبان بداية الاحتلال الإنجليزي- انقلب حال حي الأزبكية كليًا ليصبح مركزًا للهو، والحانات، والرقص الشرقي، ويرجع هذا التغيير إلى وجود الجيش الإنجليزي الذى كان لابد له من أن يلهو، لذا أقيمت بعض دور الهوى التي كانت تشغل نساءً أجنبيات ومصريات، ثم أخذت هذه الدور في الانتشار حتى بلغ عددها المئات، وعجت بها عدة عدة شوارع في القاهرة.
وقد حدد قانون الضبطية الصادر عام 1880م أماكن ممارسة البغاء في القاهرة بشوارع “كلوت بك، ومحمد علي، والمواردي، ومناطق باب الشعرية، والأزبكية، وبولاق، وباب الخرق”. ثم ذكر تقرير بوليس القاهرة عام 1926م أن مناطق البغاء الرسمية كانت منطقة “زينهم، وباب الشعرية، وعماد الدين، والألفي بك، والتوفيقية، وسور الأزبكية”.
سور الأزبكية في تحول جديد
في مطلع القرن العشرين بدأ الباعة المتجولون يظهرون في المشهد، بأن يطوفوا بين مقاهي المنطقة حاملين الكتب بين أيديهم ليعرضوها على الجمهور.
ويروي هاشم محفوظ الزهري – رئيس جمعية مكاتب سور الأزبكية للخدمات الثقافية- أن هؤلاء الباعة كانوا يتعبون من كثرة التجول عند الظهيرة، عندما تشتد الشمس والحر، فيجلسون عند السور ليستريحوا مستظلين بأشجار حديقة الأزبكية، تاركين بضاعتهم بجانبهم على الرصيف، كي يراها المارة، ليبدؤوا في السؤال عن أسعارها. ومن هنا أدرك باعة الكتب الجائلون أن سور الأزبكية مكان مناسب لعرض كتبهم، تجمع عدد منهم بجواره، ومع الوقت أخذوا في الانتشار، وازدادت شهرتهم. وبعد عام 1952م صرحت الحكومة لباعة الكتب في سور الأزبكية بالعمل في أكشاك، وكانوا حوالي 37 كشك في بداية الأمر، وكان السور يبدأ من المسرح القومي بالعتبة، وينتهي عند تمثال إبراهيم باشا.
ستون عام في سور الأزبكية
يعتبر الحاج هاشم محفوظ الزهري أقدم الباعة الحاليين في سور الأزبكية، فهو يعمل بالسور منذ 60 عام، وتحديدًا من عام 1963م، عندما دفعته ظروف الحياة الصعبة إلى ترك بلدته في سوهاج، والسفر إلى القاهرة للعمل، وهو بعد في عامه السادس عشر.
وقتها عمل مع أحد الباعة بالسور، وكان راتبه خمسة ساغ يوميًا، ويسكن بغرفة في شارع محمد علي إيجارها 40 قرشًا في الشهر.
يبلغ الحاج هاشم الآن 76 عام، ويقول:” أنا سعيد جدًا بعملي، على الرغم من أني أعاني من خشونة في ركبتي، إلا أني ما زلت أعمل لأنني أستمتع بالمكان، وبالتعامل مع المتعلمين، وتكفيني عناوين الكتب المهمة من حولي”.
حضر الحاج هاشم الكثير من التحولات التي طرأت على المكان، ويحكي أنه على مدار السنوات التي قضاها في السور كان كل محافظ يطور مجموعة الأكشاك البسيطة التي يتكون منها. لكن أكثر من اهتم بتطوير السور كان دكتور عبدالرحيم شحاتة محافظ القاهر، فمقر الباعة في البداية كان بالعتبة ثم نقلهم شحاتة إلى الدراسة.
ويستفيض الحاج هاشم:”المحافظ عبدالرحيم شحاتة زارنا في الدراسة، وسألنا عما إذا كنا سعداء في المكان الجديد، وحين أجبنا بالنفي، عرض علينا العودة إلى مكاننا القديم بالعتبة، فعدنا”.
ثم طلب شحاتة من الباعة اختيار أحدهم ليكون متحدثًا باسم السور، فاختير الحاج هاشم من قبل كل أصحاب المكتبات، فعينه المحافظ شيخ سور الأزبكية، وحاليًا يعتبر الحاج هاشم من قبل وزارة التضامن الاجتماعي رئيسًا لجمعية مكاتب سور الأزبكية للخدمات الثقافية.
يضيف الحاج هاشم أن مهنته سمحت له بمعرفة الكثير من المشاهير، الذين كانوا يأتون لشراء الكتب منه، فيقول:” منذ بدأت في تجارة الكتب تعاملت مع الكثير من المشاهير، أيام كان الكتاب بساغ وبقرشين، وقد جاء إلي اللواء محمد نجيب، ليسألني عن كتاب “كلمتي للتاريخ”، قال لي: “عندك كتاب كلمتي للتاريخ؟”، قلت له: “لا ده ممنوع”، فأجاب مستغربًا: “منعوه!”.
وأكمل: “تعاملت مع الدكتور مصطفى محمود في شبابه، كان يأتي لي بكتب من تأليفه في بداية حياته، مثل كتاب أكل عيش، وكتاب الأحلام، ولغز الحياة، ولغز الموت. كما تعاملت مع الكاتب يحيى حقي، الذي كان يأتي مع زوجته الفرنسية. ومن زبائني أيضًا الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، الذي كان يأتي إلي وهو طالب لشراء الكتب، وشيخ الأزهر كذلك”.
ويكمل الحاج هاشم مستفيضًا: “زمان كانت مكتبتي بجانب المسرح القومي، على باب المسرح، لذا فأنا أعرف سميحة أيوب، وكرم مطاوع، ومحمود ياسين، وغيرهم”.
يصف الحاج هاشم سور الأزبكية قائلًا:”هو مكان لا يمكن أن يتحدث أحد عنه، فهو يتحدث عن نفسه بنفسه. كما أن السور مشهور على مستوى العالم العربي، ويوجد سور مثله على نهر السين بفرنسا، وليس في العالم سوى سوران من هذا النوع”.
يشير الحاج هاشم إلى أن الفترة الحالية هي أفضل فترة عاصرها من حيث الوعي وثقافة الجمهور.
فعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية والركود في سوق بيع الكتب، وجنوح الجمهور إلى شراء الكتب ذات الأهمية القصوى فقط، إلا أن الوعي عند الجمهور في تزايد مستمر.
أما عن الكتب الأكثر مبيعًا في السور فيجيب الحاج هاشم: “كل كتاب وله زبونه، وأنا في هذه الفترة قد تخصصت في كتب الأطفال”.
يقول الحاج هاشم عن نفسه: “أي كتاب مضروب، أو لا يفيد الناس لا أبيعه، في كتب غير مضروبة لكنها غير مفيدة. مثل كتاب شمس المعارف في السحر مثلًا، فعلى الرغم من كونه كتاب رخيص، ويمكن بيعه بثمن عالي، ولكني لا أبيعه لأنه كتاب لا يفيد، لأن “الدال على الخير كفاعله”، و”العلم يرفع بيوتًا لا عماد لها، والجهل يهدم بيوت العز والشرف”.
خالد هاشم هو نجل الحاج هاشم، ويعمل أيضًا في تجارة الكتب بسور الأزبكية، وقد أشار إلى أن أزمة الورق التي رفعت أسعار الكتب الجديدة، لم تأثر على أسعار الكتب المستعملة، ولكنها جعلت الناس يلجؤون إليها بشكل أكبر كما هو الحال الآن مع الكتب المدرسية، التي أصبحت أسعار الجديد منها عالية جدًا. كما يرى خالد أن نسبة شراء الكتب قد انخفضت بسبب ضغوطات الحياة، حيث اختفت البنود التي تعتبر من قبيل الترفيه من ميزانية الجمهور.
يضيف خالد أن الكتب المدرسية هي الأكثر مبيعًا في الأيام الدراسية، أما في الإجازات فالقصص، والروايات هي التي تتصدر الكتب الأكثر مبيعًا.