في زمنٍ صارت فيه فلسطين مادةً أرشيفيةً على أرصفة الأخبار، ينهض من غربته الفنان الفلسطيني الدكتور جمال بدوان ليقول: لم نرحل. لم نغب. لم ننكسر.
لا بالخطابة، ولا بالنحيب… بل باللون.
وحين اختلطت رائحة الورد برماد البيوت المحترقة، وحين صار الحنين وطنًا مؤقتًا، تفتحت ريشة جمال بدوان كأنها غصن زيتون شقّ طريقه في صخر المنافي.
هو لا يرسم، بل يقطف من الذاكرة أشلاءً، يرممها باللون، يضمدها بالحلم، ثم يضعها أمامنا صريحةً… جارحةً وجميلة.
من قرية عزّون في قلقيلية، إذ وُلد جمال بدوان عام 1958،
إلى معارض أوروبا وآسيا، حيث درس الفنون والاقتصاد.
ومن مخيمات اللجوء إلى القاعات المذهّبة في كييف، حيث نال العديد من الجوائز الدولية، أبرزها “الأوسكار الأوكرانية للفنون”. يُعتبر من أبرز وجوه الفن المقاوم المعاصر، وصاحب أكبر لوحة زيتية في العالم.
ففي عام 2011، رسم بدوان لوحة زيتية عملاقة بعنوان “سفينة نوح”، مساحتها 310 أمتار مربعة، استغرق إنجازها عامًا كاملًا من العمل اليومي المتواصل. جسّد فيها الإنسان في لحظة الخوف والأمل، محاطًا بعناصر الأرض والمقدسات، تقوده حمامة بيضاء إلى برّ الخلاص، عبر المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وكاتدرائية كييف.
عُرضت اللوحة أولًا في العاصمة الأوكرانية كييف، ثم نُقلت إلى بيت لحم لتعانق كنيسة المهد، قبل أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية وتُسجل باسم فلسطين، لا كأكبر لوحة فحسب، بل كأكبر نداء فني للسلام في وجه الطوفان.
يحمل بدوان وطنه على ريشة، ويرسمه بشغف الناجين لا المنتظرين.
الفنان الذي درس الفنون والاقتصاد معًا، اختار أن يكون سفير فلسطين التشكيلي لا بمرسومٍ رسمي فقط، بل بما هو أعمق: التوثيق البصري للوجع، والإصرار على تحويل الألم إلى أثر.
جمال بدوان، ابن عزّون الفلسطينية، لا يزال يكتب بلغة الرسم ما عجزت عنه بيانات السياسة، وما لم يُدوَّن في مذكرات الجنرالات، ولا في تقارير الأخبار العاجلة.
درس الفنون، فامتلك أدواته، ثم تمرّد على الأكاديمية ليؤسس فنًا ذا هوية… فنًا يحترف الحنين، ويعيد رسم الخرائط بالبصيرة لا بالبوصلة.
حين رسم لوحة “اللاجئ”، لم يُرِد أن يُبكي أحدًا، بل أن يوقظ ذاكرة؛ أن يزرع على الكتفين خريطة، وعلى الجبين شمسًا لا تغرب.
لا كوفية فقط، بل شجرة نسب من الألم المتوارث، وسؤال قديم: متى نعود؟
وفي “ملامح فلاحة فلسطينية”، لا وجوه نساء، بل صفحات من الأرض المحروثة بالدمع، والمروية بالشوق.
وحين وقف أمام أطفال الانتفاضة، رسمهم لا بالحجارة، بل بالكلمات التي يكتبونها على جدران المخيم: “فلسطين”، بخطٍّ مرتجف وثابت.
سُئل مرة: “هل الفن مقاومة؟”
فأجاب: “الفن هو ما يتبقى حين تنفد الرصاصات وتنقطع الكهرباء عن المخيم.”
هذا هو بدوان؛ لا يغضب، لا يصرخ، لكنه يتركك مشدوهًا أمام لوحة فيها امرأة تتكئ على جدار نصفه مهدوم، وفي عينيها “وعد بلفور” و”حق العودة” معًا.
خاض أكثر من 56 معرضًا فنيًا، أُقيمت في ثلاث وثلاثين دولة تحت عنوان واحد: “نافذة على فلسطين”.
لكن الحقيقة أنه لم يفتح نافذة، بل خلع الجدار كله… جعل المتلقي يُطلّ على الداخل الفلسطيني بكل تناقضاته، بجرحه ومجده، بطفولته المقيّدة ونخيله العالي.
نعم، فهي لم تكن نافذة، بل مشهدًا متكاملًا: للحنين، للتاريخ، للمقاومة الصامتة التي لا تحتاج إلى شعار.
“الفن مقاومة ناعمة لكنها تخترق الوعي”، يقول بدوان.
ولهذا، حين أقام أكبر لوحة زيتية في العالم عن سفينة نوح في كييف، لم يكن ذلك مجرد استعراض تقني. كانت تلك اللوحة تحمل فكرة الخلاص، والنجاة، وحق العبور من الغرق إلى الحياة.
لوحاته ليست مجرد تشكيلات بصرية، بل سيرة ذاتية لأمّة.
امرأة فلسطينية بزيّها المطرز، تحمل الأرض في ملامحها.
طفل يحمل حقيبة، لا للمدرسة فقط، بل لكل مفاتيح العودة.
عجوز ينظر إلى الكاميرا في صمت، كأنه يحملها وصية: “لا تنسَني”.
رغم استقراره في أوكرانيا وحصوله على جنسيتها، لم تغب فلسطين عن لوحاته. بل إن كييف نفسها تحولت، في بعض زواياها، إلى مساحة عرضٍ للذاكرة الفلسطينية.
وفي كل مرة يُكرَّم فيها، كما حدث حين نال “أوسكار أوكرانيا للفنون”، كان يرفع الجائزة كمن يرفع جرحًا بكرامة.
لم يكن جمال بدوان فنانًا فحسب، بل كان شاهدًا على الوجع الفلسطيني، وراويًا بارعًا لحكاية وطن لا يموت.
لوّن الألم بريشته، وخلّد الذاكرة الفلسطينية على جدران الصمت العالمي.
في عينيه، لم تكن اللوحة مجرد فن، بل مقاومة، وفي كل خطٍّ من خطوطه نزفُ حلمٍ مؤجّل وحقٍّ مسلوب.
يقول عنه الفنان التشكيلي العالمي إيفان لورينزو: “حين رأيت أعماله في المعرض الأوروبي، شعرت أنني أقف أمام صرخة لا تحتاج إلى ترجمة.”
أما الناقدة الفرنسية كلير مارتان فكتبت: “جمال بدوان لا يرسم فلسطين، بل يعيد خلقها في كل لوحة؛ يعيدها من الرماد، من الذاكرة، من ضوءٍ يسكن العين ويأبى أن يُطفأ.”
وفي حديثه عنه، قال الفنان الفلسطيني الكبير كمال بلاطة: “في زمن الانهيارات، كان جمال يرسم كي ننهض، وكي لا ننسى. كل لوحة من لوحاته هي خندق صغير في معركة طويلة.”
وقيل أيضًا: “لوحاته لا تُعلّق على الجدران، بل تسكن في القلوب، وتُقرأ كما تُقرأ القصائد التي خُطّت بالدم والحنين.”
فنان بحجم قضية، وإنسان بحجم وطن.
وأنا أقول:
ليس من السهل أن تكون فنانًا فلسطينيًا في المنافي، لكن الأصعب أن تحافظ على نبرة الحلم دون أن تتهشّم.
وجمال بدوان يفعلها، كل مرة، بريشة واثقة، وقلبٍ مغمور بتراب لا يراه… لكنه لا يغيب عنه.
جمال بدوان لا يرسم فلسطين، بل يستدعيها من المنفى، من الصمت، من المدى المكسور، ليزرعها في حدقة العالم، ويقول: “هنا كانت الحياة، وهنا ستعود.”
فنان بحجم القضية، وإنسان بحجم الوجع… وذاكرة لا تشيخ.
اقرأ أيضا: محمد سعد عبد اللطيف يكتب: الريف المصري بين التحول والتفكك.. قراءة في نسيج يتجدد