طليقة ذنوبي هو الإصدار الجديد للكاتبة المغربية عائشة رزيق، والصادر عن دار سما للنشر والتوزيع.
تبدو الكاتبة رزيق، المولودة بالدار البيضاء والمقيمة بالرياض، في مجموعتها طليقة ذنوبي وكأنها تمشي على الحدّ الفاصل بين الشعر والنثر، بين البوح والاحتراق. هذا الكتاب ليس فقط نصوصًا نثرية تتخذ هيئة الشذرات، بل هو اعتراف ممتد، شبيه بتراتيل امرأة غفرت لذاتها ولم تغفر للعالم.
اللغة عند رزيق مشبعة بالتكثيف والجرح، تحتفي بالفقد كما لو أنه يقين وجودي. تسير الجمل بخفة شاعرية، لكنها ثقيلة بالمعنى والرمز.
الكتاب ليس موجّهًا للقارئ بقدر ما يبدو أنه موجّه لصاحبة النص نفسها؛ كأنها تكتب لتسمع صوتها وسط الضجيج. هي كتابة حميمية، عارية من التجميل، تُشبه ما تسميه “النجاة البطيئة”، وفي كثير من المقاطع يتحوّل النص إلى مساحة علاجية، نفسية، وجودية.
في هذا السياق، تشبه طليقة ذنوبي أعمال فرجينيا وولف وسيلفيا بلاث من حيث العمق الذاتي، لكنها، في ذات الوقت، تتخذ من البيئة المغربية والخلفية الثقافية العربية تربةً لها، ما يضفي على العمل صدقًا فريدًا وهويةً واضحة.
الكتاب لا يحتوي على سرد زمني أو شخصيات واضحة، بل يعتمد على البناء التجزيئي، ما يمنحه حرية تشكيل المعنى وفق مزاج القارئ. هذا التكسير في البناء يتناغم مع التكسير النفسي الداخلي الذي تعانيه المتكلّمة في النص. كل شذرة هي بمثابة مرآة، مشروخة أحيانًا، تعكس ظلّ امرأة تصنع من الألم قصة نجاة.
تقدّم الكاتبة المغربية عائشة رزيق نصوصًا نثرية تستعير من الشعر كثافته، ومن الاعتراف صدقه، لتروي حكاية أنثى تحاول أن تكتب خلاصها من الحب، ومن الذنب، ومن الذاكرة أيضًا. لا تتحدث الكاتبة باسم الجموع، بل باسم الذات المجروحة التي وجدت في الكتابة خلاصًا.
اللغة في هذا العمل شفّافة وموجعة في آنٍ واحد. لا تكتب رزيق بلغة تزينية، بل بلغة مجروحة، تتقشّف من الزخرف لتصل إلى العصب الحي للتجربة.
تمارس رزيق نوعًا خاصًا من الكتابة، يشبه تطهير الذات عبر اللغة. نصوص نثرية قصيرة، تتناثر كقصاصات اعتراف، لا تسعى إلى تماسك سردي بقدر ما تنشغل بالحفر في طبقات الشعور، والنبش في الذاكرة، والعاطفة، والخذلان.
ما يميّز طليقة ذنوبي هو التقاء التجربة الحياتية بالصياغة الجمالية؛ فالنص لا ينفصل عن نبض صاحبته، لكنه أيضًا لا يغرق في الذاتية المفرطة، بل يمنح القارئ فرصة ليجد نفسه فيه. ومن خلال الكتابة، تصبح الذات الأنثوية قادرة على فضح ما خفي من جراحها، لا للبكاء، بل للتجاوز.
عائشة رزيق لا تقدّم “نصوص حب” تقليدية، بل نصوصًا عن خيانة الذات للذات حين تحب من لا يرى، وعن النجاة التي تبدأ حين تنتهي العلاقة. وبين الذنب والغفران، تكتب عنوانًا قاسيًا ومضيئًا في الوقت نفسه: “أنا طليقة ذنوبي.”
تأتي اللغة في الكتاب مباشرة، لكنها مشبعة بالإحساس، تتكئ على المجاز أحيانًا، وعلى التعرية العاطفية أحيانًا أخرى.
النصوص ليست موجهة إلى قارئ خارجي، بل تبدو وكأنها حديث داخلي ممتد؛ نوع من العزلة التي تُكتَب. كثير من المقاطع تبدأ بالفعل المضارع، مما يضفي على النص طابعًا حيًّا، كما لو أن الكاتبة ما زالت تعيش هذا الانهيار أو هذا التشافي في اللحظة ذاتها.
الكتاب يعكس تجربة أنثوية مشحونة بالأسئلة. ليست أسئلة وجودية كبرى، بل تلك الأسئلة الصغيرة الموجعة:
“لماذا نشقى في سبيل من لا يرانا؟ لماذا نظل على الهامش في حياة أحدهم ونحن نستحق الصفحة الأولى؟”
بهذا الوعي، تُفكّك رزيق نمط العلاقة غير المتكافئة، وتعيد رسم حدود جديدة بين الذات والآخر.
هذا الكتاب ليس فقط نصوصًا، بل مرآة تُرينا كم يمكن للكتابة أن تكون فعل نجاة حقيقيًا.
طليقة ذنوبي ليس كتابًا عن الذنب بمعناه الأخلاقي، بل عن التواطؤ العاطفي، عن كيف نكون سجناء لمشاعر لا تليق بنا. عنوان الكتاب نفسه يشي بالعتق والتحرر، وكأن الكاتبة أعلنت طلاقها من ماضيها، من خضوعها، من وهم العلاقات.
طليقة ذنوبي ليس مجرد تجميع نصوص، بل هو مشروع نجاة بلغة صادقة، ناعمة كأنين، قاسية كندبة. كتاب يستحق أن يُقرأ ببطء، لأن كل جملة فيه كُتبت على حافة خيبة.
طليقة ذنوبي ليس كتابًا بسيطًا يمكن تجاوزه، بل هو نصّ يعيش في قلب قارئه لفترة طويلة، لأن الكاتبة عرفت كيف تصوغ تجربتها بصدق لا يتكئ على الزينة اللفظية. هو كتاب عن امرأة نزعت عنها جلد الخوف، وكتبت حريتها كما لو أنها صلاة سرّية في دفتر الغفران.
عائشة رزيق، في هذا العمل، لا تكتب فقط من أجل الفن، بل تكتب من أجل النجاة.