تُعد قصيدة “إرادة الحياة” واحدة من أبرز القصائد للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، الذي عُرف بشغفه الكبير وانخراطه في القضايا الوطنية والاجتماعية،وُلِد الشابي في قرية الشابية في ضواحي تونس، وقد ارتبطت أعماله بمفاهيم الحرية والتغيير،في تلك القصيدة، يرى الشاعر تجسيدًا لإرادة الشعوب في تحقيق التغيير المأمول، مما جعلها تُعتبر نشيدًا للثورة والحماس،سنقوم بدراسة معانيها وأفكارها بلاغيًا بشكل مفصل، لنعرف كيف تمكّن الشابي من التعبير عن هذه القضايا بشكل جذاب وجميل.
شرح قصيدة إرادة الحياة
تُعتبر قصيدة “إرادة الحياة” من المحطات الهامة في الأدب العربي الحديث، خاصة في الأدب التونسي،يُبرز الشابي من خلال أبياته قوة الإرادة التي ينبعث منها الأمل والتغيير، مُوجهًا رسالته إلى الشعب التونسي وكل الشعوب المُستضعفة،يتحدث الشاعر في قصيدته عن أهمية السعي نحو الحياة، وأنه لا بد من الإرادة القوية لتحطيم القيود التي تحبس الإنسان،من خلال هذه القصيدة، يعبّر الشابي عن الهوية الوطنية ويعكس قضايا الإنسان بكل قلقه وآماله.
نص قصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي
إليك النص الكامل للقصيدة، الذي يجسد أفكار الشاعر ويعبر عن مشاعر الشعوب
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ * * فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي * * ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ * * تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ * * من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ
كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ * * وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ
ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ * * وفوقَ الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ * * رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ * * ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ * * يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
فَعَجَّتْ بقلبي دماءُ الشَّبابِ * * وضجَّت بصدري رياحٌ أُخَرْ
وأطرقتُ أُصغي لقصفِ الرُّعودِ * * وعزفِ الرّياحِ وَوَقْعِ المَطَرْ
وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ * * أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ * * ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ * * ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ
هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ * * ويحتقرُ الميْتَ مهما كَبُرْ
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ * * ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ
ولولا أُمومَةُ قلبي الرَّؤومُ لمَا * * ضمَّتِ الميْتَ تِلْكَ الحُفَرْ
فويلٌ لمنْ لم تَشُقْهُ الحَيَاةُ * * منْ لعنةِ العَدَمِ المنتصرْ
وفي ليلةٍ مِنْ ليالي الخريفِ * * متقَّلةٍ بالأَسى والضَّجَرْ
سَكرتُ بها مِنْ ضياءِ النُّجومِ * * وغنَّيْتُ للحُزْنِ حتَّى سَكِرْ
سألتُ الدُّجى هل تُعيدُ الحَيَاةُ * * لما أذبلته ربيعَ العُمُرْ
فلم تَتَكَلَّمْ شِفاهُ الظَّلامِ ولمْ * * تترنَّمْ عَذارَى السَّحَرْ
وقال ليَ الغابُ في رقَّةٍ * * محبَّبَةٍ مثلَ خفْقِ الوترْ
يجيءُ الشِّتاءُ شتاءُ الضَّبابِ * * شتاءُ الثّلوجِ شتاءُ المطرْ
فينطفئُ السِّحْرُ سحرُ الغُصونِ * * وسحرُ الزُّهورِ وسحرُ الثَّمَرْ
وسحْرُ السَّماءِ الشَّجيّ الوديعُ * * وسحْرُ المروجِ الشهيّ العَطِرْ
وتهوي الغُصونُ وأوراقُها * * وأَزهارُ عهدٍ حبيبٍ نَضِرْ
وتلهو بها الرِّيحُ في كلِّ وادٍ * * ويدفنها السَّيلُ أَنَّى عَبَرْ
ويفنى الجميعُ كحلْمٍ بديعٍ * * تأَلَّقَ في مهجةٍ واندَثَرْ
وتبقَى البُذورُ التي حُمِّلَتْ * * ذخيرَةَ عُمْرٍ جميلٍ غَبَرْ
وذكرى فصولٍ ورؤيا حَياةٍ * * وأَشباحَ دنيا تلاشتْ زُمَرْ
معانِقَةً وهي تحتَ الضَّبابِ * * وتحتَ الثُّلوجِ وتحتَ المَدَرْ
لِطَيْفِ الحَيَاة الَّذي لا يُملُّ * * وقلبُ الرَّبيعِ الشذيِّ الخضِرْ
وحالِمةً بأغاني الطُّيورِ * * وعِطْرِ الزُّهورِ وطَعْمِ الثَّمَرْ
ويمشي الزَّمانُ فتنمو صروفٌ * * وتذوي صروفٌ وتحيا أُخَرْ
وتَصبِحُ أَحلامَها يقْظةً * * موَشَّحةً بغموضِ السَّحَرْ
تُسائِلُ أَيْنَ ضَبابُ الصَّباحِ * * وسِحْرُ المساءِ وضوءُ القَمَرْ
وأَسرابُ ذاكَ الفَراشِ الأَنيقِ * * ونَحْلٌ يُغنِّي وغيمٌ يَمُرْ
وأَينَ الأَشعَّةُ والكائناتُ * * وأَينَ الحَيَاةُ التي أَنْتَظِرْ
ظمِئْتُ إلى النُّورِ فوقَ الغصونِ * * ظمِئْتُ إلى الظِّلِّ تحتَ الشَّجَرْ
ظمِئْتُ إلى النَّبْعِ بَيْنَ المروج * * يغنِّي ويرقصُ فوقَ الزَّهَرْ
ظمِئْتُ إلى نَغَماتِ الطُّيورِ * * وهَمْسِ النَّسيمِ ولحنِ المَطَرْ
ظمِئْتُ إلى الكونِ أَيْنَ الوجودُ * * وأَنَّى أَرى العالَمَ المنتظَرْ
هُو الكونُ خلف سُبَاتِ الجُمودِ * * وفي أُفقِ اليَقظاتِ الكُبَرْ
وما هو إلاَّ كَخَفْقِ الجناحِ * * حتَّى نما شوقُها وانتصَرْ
فصدَّعَتِ الأَرضُ من فوقها * * وأَبْصرتِ الكونَ عذبَ الصُّوَرْ
وجاءَ الرَّبيعُ بأَنغامهِ * * وأَحلامِهِ وصِباهُ العَطِرْ
وقبَّلها قُبَلاً في الشِّفاهِ * * تُعيدُ الشَّبابَ الَّذي قدْ غَبَرْ
وقال لها قدْ مُنِحْتِ الحَيَاةَ * * وخُلِّدْتِ في نَسْلِكِ المدَّخَرْ
وباركَكِ النُّورُ فاستقبلي * * شَبابَ الحَيَاةِ وخصْبَ العُمُرْ
ومن تَعْبُدُ النُّورَ أَحلامهُ * * يُبارِكُهُ النُّورُ أَنَّى ظَهَرْ
إليكِ الفضاءَ إليكِ الضِّياءَ * * إليكِ الثَّرى الحالمَ المزدهر
إليكِ الجمالُ الَّذي لا يَبيدُ * * إليكِ الوُجُودَ الرَّحيبَ النَّضِرْ
فميدي كما شئتِ فوقَ الحقولِ * * بحُلْوِ الثِّمارِ وغضِّ الزَّهَرْ
وناجي النَّسيمَ وناجي الغيومَ * * وناجي النُّجومَ وناجي القَمَرْ
وناجي الحياة وأشواقها * * وضنة هذا الوجود الأغر
وشفَّ الدُّجى عن جمالٍ عميقٍ * * يُشِبُّ الخيالَ ويُذكي الفِكَرْ
ومُدَّ على الكونِ سحرٌ غريبٌ * * يصرّفُهُ ساحرٌ مقتدِرْ
وضاءَتْ شموعُ النُّجُومِ الوِضَاءِ * * وضاعَ البَخُورُ بَخُورُ الزَّهَرْ
ورَفْرَفَ روحٌ غريبُ الجمال * * بأَجنحةٍ من ضياءِ القَمَرْ
وَرَنَّ نشيدُ الحَيَاةِ المقدَّس * * في هيكلٍ حالِمٍ قدْ سُحِرْ
وأُعْلِنَ في الكونِ أنَّ الطّموحَ * * لهيبُ الحَيَاةِ ورُوحُ الظَّفَرْ
إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ * * فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ
شرح أبيات قصيدة إرادة الحياة
سنتناول في هذه الفقرة شرح بعض الأبيات التي تأطّر المعاني الرئيسية التي أرادها الشاعر “أبو القاسم الشابي” من خلال هذه القصيدة الخالدة،تلك الأبيات تعكس الهوى الوطني وتجسد آلام وآمال الشعب في البحث عن الحرية،يقول أولاً
إذا الشعب يومًا أرادَ الحياةَ * * فلا بدَّ أن يستجيبَ القدرْ
ولا بدَّ لليلِ أن ينجلي * * ولا بدَّ للقيدِ أن ينكسِرْ
بهذه الأبيات، يعبّر الشابي عن الإرادة القوية للشعب التونسي في السعي نحو التغيير،يُشبه الشاعر الظروف القاسية، كالقيد والليل، بأنهما لن يدوموا، وأن إرادة الحياة هي القادرة على انكسار القيود ورفع الظلام.
في البيت الثالث، يؤكد الشاعر أن الإنسان الذي لا يتوق للعيش السعيد سيبقى كالماء المتبخر، حيث يفقد ذاته في الأجواء المحيطة به.
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ * * تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ * * من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ
في هذه الأبيات، يدعو الشاعر الناس للإحساس بسرعة الحياة وأهمية التمسك بالأمل، مُعبّرًا عن الوضع المأساوي للذين يفتقرون لهذه الروح،الحياة تحمل تحديات عديدة، ولكن المصداقية في التعطش لها تُمكن الإنسان من النزول بقوة.
شرح الأبيات الشعرية من البيت الخامس إلى السابع
في هذه الأبيات، يحتفي الشابي بالحياة ويتحدث عن حالته الداخلية، التي تعكس الصراع الذي يعانيه في ظل الظروف المحيطة به.
كذلكَ قالت لي الكائناتُ * * وحدَّثني روحها المستترْ
ودمدمَت الريحُ بين الفجاجِ * * وفوق الجبال وتحتَ الشجر
إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ * * لبستُ المنى ونسيتُ الحذَر
في هذه الأبيات، يتواصل الشاعر مع الكائنات كأنها تثير في داخله مشاعرها، وهذا يُظهر الرابطة بينه وبين محيطه،يدعو الكائنات المشاركة في حلمه ورغباته،الكائنات تعبر عن شعور الشاعر، حيث تُصبح تلك الروح الطموحة تتجلى في الأرض وما حولها.
شرح الأبيات من البيت الثامن إلى العاشر
نستمر في تحليل الأبيات لنُبرز الشجاعة والجرأة التي تُعبر عن حياة الشاعر،يقول
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ * * ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ * * يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
فَعَجَّتْ بقلبي دماءُ الشَّبابِ * * وضجَّت بصدري رياحٌ أُخَرْ
هنا، يُبرز الشابي رغبته الدؤوبة في مواجهة التحديات، موضحًا أنه لا يُريد تجنب الصعوبات، بل يُفضل مواجهتها،يُشبه الحرمان من الطموح بحياة تُجبر الإنسان على الانسحاب إلى الأعماق الواهنة، بعكس الساعي نحو القمم.
شرح الأبيات من الحادي عشر إلى السادس عشر
ننتقل إلى المرحلة التالية في التحليل
وأطرقتُ أُصغي لقصفِ الرُّعودِ * * وعزفِ الرّياحِ وَوَقْعِ المَطَرْ
وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ * * أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ * * ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ * * ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ
في هذه الأبيات، يُعبر الشابي عن أسلوبه في الاستماع إلى أصوات العناصر الطبيعية مُظهراً عمق اتصاله بالطبيعة،كما يشيد بأهل الطموح، مُبرزًا أهمية السعي لتحقيق الأهداف.ån يعتبر التهاون دليلاً على العجز ويعبر عن هذا من خلال تشبيه مبهر.
شرح الأبيات من الحادي والعشرين إلى السادس والعشرين
سنتناول تحليلاً فهميًّا للأبيات التي تتحدث عن العلاقة بين الإنسان والوطن
سألتُ الدُّجى هل تُعيدُ الحَيَاةُ * * لما أذبلته ربيعَ العُمُرْ
فلم تَتَكَلَّمْ شِفاهُ الظَّلامِ * * ولمْ تترنَّمْ عَذارَى السَّحَرْ
وقال ليَ الغابُ في رقَّةٍ * * محبَّبَةٍ مثلَ خفْقِ الوترْ
في هذه الأبيات، يتساءل الشابي عن إمكانية عودة الحياة بعد الفقد، ويمثل الليل والظلام عدم اليقين، بينما يرمز سحر الطبيعة إلى الأمل الدائم والتجدد،الطبيعة، في صياغة الشابي، تتحدث بلغة شاعرية تُظهر العلاقة القريبة بمشاعره وأفكاره.
شرح الأبيات من البيت السابع والعشرين إلى الثلاثين
نختتم مع شرح هذه الأبيات
جاءَ الرَّبيعُ بأَنغامهِ * * وأَحلامِهِ وصِباهُ العَطِرْ
وقبَّلها قُبَلاً في الشِّفاهِ * * تُعيدُ الشَّبابَ الَّذي قدْ غَبَرْ
وقال لها قدْ مُنِحْتِ الحَيَاةَ * * وخُلِّدْتِ في نَسْلِكِ المدَّخَرْ
وباركَكِ النُّورُ فاستقبلي * * شبابَ الحَيَاةِ وخصْبَ العُمُرْ
في نهاية القصيدة، ينظر الشابي إلى المستقبل بنظرة مليئة بالأمل، مُشيرًا إلى عودة الحياة الجديدة،يُركز على أهمية التمسك بالطموحات والاستعداد للتغيير،الشاعر في نصه يوجّه رسالة قوية تحقق النصر من خلال الإرادة القوى.
معاني الكلمات في قصيدة إرادة الحياة
لكي نفهم القصيدة بشكلٍ أفضل، نستعرض معاني بعض المفردات التي استخدمها الشاعر في قصيدته
- أراد طلب.
- القدر ما يقدره الله ويحكم به.
- ينجلي ينكشف ويزول.
- يعانق يحضن.
- اندثر زال وامّحى.
- مستتر خفيّ وغير ظاهر.
- دمدم زمجر وأحدث صوتًا مُدويًا.
- الحذر الحرص الشديد.
- وعور الشعاب الطريق الصعب من أجل السير فيه.
- كبة اللهب معظم النار.
- غاية هدف.
- فِجاج الطريق الواسع.
- دهر مدة الحياة الطويلة.
- عجّت اشتدت فأثارت الغبار.
- ضجّت ثارت وصاحت.
- أطرق مال برأسه وسكت.
- أصغى استمع بدقة.
- وقع أثَر.
- يستلذ يستمتع.
- يحتقر يستصغر الشخص ويستهين به.
- يلثم يُقبِّل.
- تترنم تتغنى في طرب.
- المروج الأرض الواسعة ذات نبات ومرعى للدواب.
- تلاشت زمر خارت وانحطت من التعب.
- المدر الطين اللزج والمتماسك.
- ظمئت اشتقت.
قصيدة “إرادة الحياة” تعكس بوضوح الطموح والأمل في حياة الإنسان، وتبرز أهمية الإرادة في تحقيق الأهداف،لقد استخدم أبو القاسم الشابي أساليب بلاغية قوية ومؤثرة ليوصل رسالته إلى القارئ، مجسدًا مشاعر الهوية والتغيير بحلاوة الأدب والشعر.