يقدم الدكتور حامد الشيمي، أستاذ النقد بكلية دار العلوم، قراءة نقدية، في ديوان “ظلال لم يقطعها الحطاب” للشاعر محمد طايل، والصادر عن دار فهرس للنشر والتوزيع، إن “قصائد الديوان حين تقرأها تشعر بانفتاحها على عوالم فكرية، وقيم جمالية”
ومحمد طايل هو شاعر مصري شاب، ولد في عام 1995 بمحافظة الغربية. تخرج في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان: “ظلال لم يقطعها الحطاب”، وهي المحموعة التي يناقشها الدكتور حامد الشيمي في السطور التالية، والتي يصفها الشيمي بأن تيمتها الأساسية هي: “”البحث”: التفتيش، التفقد، النظر..، وموضوعة البحث في ذاتها تقتضي مفقودا يُبحث عنه، وهكذا سنجد أننا بإزاء موضوعتين تسكنان تجارب الديوان؛ وهما موضوعتان بالمناسبة لا تفصح عنهما تجارب الديوان، بل تراوغ المتلقي كثيرا ليظل يبحث بدوره.
هذه تجربة ناضجة لعدد من الحيثيات
أولها تلبُّسها برؤية خاصة
تمكنها إلى قدر جيد من تحقيق معادلة الصعبة بين الطرفين مهمين: الشعر بحسبانه طاقة بوح خاصة، والشاعرية بحسبانها رؤى كاشفة ينتظرها المتلقي من الشاعر لتفلسف له قضايا ربما استشعرها لكنه عجز عن احتقابها واحتوائها.
توفر مقدار لا بأس به من مجاوزة الذات إلى المتلقين، برغم أننا بإزاء شعر لا سرد، نوع غنائي لا حكائي.
براءتها من كثير من عثرات البدايات والفخاخ المنصوبة على طريق التجارب الأولى: كالثرثرة، والغنائية الزائدة، والخطابية، وصخب الموسيقى الذي لا يقول شيئا، والهبوط على المعاني من عل، والهجوم المباشر على الغرض ونحو هذا مما نطالعه كثيرا في التجارب الأولى. دون فهم لما تقتضيه أصول الشاعرية والصنعة.
قصائد محمد حين تقرأها على وجازتها تحس بانفتاحها على عوالم فكرية وقيم جمالية، ليست نصوصا مسيجة بحدود الذات فحسب بل تعي أن ثمة واشجة بين ما هو خاص وما هو جمعي عبر قضية الانفتاح هذه والابتعاد عن الانغلاق الكلي على الذات الشاعرة.
العاطفة عند محمد ليست تلك المتوهجة الصاخبة المستعرة الانفعالية، بل هي مموسقة هادئة تجنح إلى التأمل والصمت والأداء الخفيض، وأنا أعد تلك ميزة لأن الانفعالية تستهدف ذات الشاعر باستلال ما يعتمل فيها، أما الأداء الصامت فهو أقرب إلى تقنين الرؤية وتهذيبها، ألصق بأمور الكشف والتصوف وفلسفة المعاني الكبرى وسنرى أن تلك هموم عنيت بها هذه التجربة.
الشعر فن انفعالي؛ تلك من بويطيقا النوع، لكنه لا ينبغي أن يكون انفعالا فقط.
طبعا أنا إن كنت أبرئ تجربة محمد من شحنة الانفعال الزائدة فإنني لست أدعي بدافع المجاملة أن أذهب إلى أنه بلغ المبلغ الفني المطلوب في الموازنة بين الانفعال وأداء الرسالة، غير أنه بلغ مبلغا كبيرا في الموازنة بين مسألة الانفعال تلك ومسألة أن نقول شيئا من خلال الانفعال.
ربما مثل ما قدمته الآن بين أيديكم وصفا عاما لشاعرية محمد طايل، وفيما يلي أقف بالحضور الكريم على حيثيات هذا الوصف العام، وسأحاول أن أصنفه إلى النقاط الآتية:
ما يتعلق بالهم الشعري
ما يتعلق بالجماليات الشعرية
توصيات ختامية
***
الرؤى الشعرية في ديوان محمد طايل
مفتاح شاعرية هذا الديوان
ثمة مفاتيح يحاول الناقد دوما من خلالها أن يرصد حركة المعنى ويكشف عن رؤى المبدع/النص(والحقيقة انا أفضل أن أقول النص أو أن أضع لفظة النص موضع لفظة المبدع، فالمبدع أدى دوره وترك لنا النص، وقد لا يكون المبدع قد قصد ولكن قصد النص، وقد لا يكون قد أدى ولكن أدى النص؛ وأحسب أنها ليست عملية إقصاء بل هي مسألة إرجاء إلى حين)
أقول: مفاتيح ولا أقول بنى صغرى ضمن الشبكة البنيوية الكبرى للنص حتى لا نمارس قسوتنا الأكاديمية على النصوص فالحق أن مثل هذه اللقاءات هي مما يعزز بذرة المبدع في الناقد ويصالحه على النص أكثر من تصالحه على المنهج نصيا كان المنهج أو خطابا..
على كل ثمة مفاتيح كما قلت يمكن فيما أرى ومن منظوري الخاص المتواضع تتبعها ورصدها خلال أكثر تجارب الديوان.
القيمة الكبرى لهذه التجارب تتركز فيما أرى في قضية “البحث”: التفتيش، التفقد، النظر..، وموضوعة البحث في ذاتها تقتضي مفقودا يُبحث عنه، وهكذا سنجد أننا بإزاء موضوعتين تسكنان تجارب الديوان؛ وهما موضوعتان بالمناسبة لا تفصح عنهما تجارب الديوان، بل تراوغ المتلقي كثيرا ليظل يبحث بدوره.
ينفتح الباب إذن على أفق التأويل: ما المفقود؟ ما الغائب؟ وهل تمكنت الذات من استحضاره .. ونحو هذا.
ويمكن القول إن مفقود الشاعر الذي يراوغ تجارب الديوان كاملة تقريبا هو الذات نفسها: الذات بماضيها، الذات بمستقبلها، الذات الواقعة تحت أزمة تحولات، المموهة والتائهة نتيجة تحولات قاسية مرت بها الحياة فأحالت المكان وغيبت التقاليد وغيرت مفردات الطبيعة والبيئة حتى غدت غريبة عن الذات وغدت الذات عنها غريبة، لقد فقدت تكوينا من تكويناتها، مرحلة من مراحل تشكلها في زمن لذت به ولذ لها.. لكنه غاب الآن حيث تقف الذات محاولة استرداده من براثن تحولات قاسية.
محمد باحث عن الذكرى، عن المراحل الغضة الطرية التي سلفت، عن الطفولة والطفل، يفتقد هذا الطفل الذي بداخله أو الذي كان بداخله، هذا هو مفقوده الأول، ولأجله كان الزمان المتهم الأول لإذهابه. كان وردزوورث يقول في مقولة خالدة: : The child is a father of man وهي المقولة ذاتها التي رددها فرويد لاحقا: الطفل هو الإنسان الكبير: محمد طايل يبحث كثيرا عن الطفل، عن الذكرى، عن الأمس، عن الموطن الأول:
أريد لي موطنا مثل الكتاب
مدى أفر فيه
ولا يغتالني هم
مثل الحوائط
من حزني أروح لها
وساندا أمسي المكسور يلتم
لكن بغربتي الأحلام ساهرة
كأنني حلمها
أو أنني وهم/133
وسنراه في “لا أطلب الكثير” بين لحظات الزمن الثلاثة تائها حائرا لا يجد له جذرا يتشبث به ولا يحقق وجوده بين أي من اللحظات الثلاثة: حيث غدا الماضي ذكرى وحيث لحظتا الآن والمستقبل تحملان التوجس والقلق:
الوجود التطلع
ثم غرقت بنهر التخيل
فات القطار
الوجود الحنين
غرقت بنهر التذكر
فاتت محطتي المشتهاة
الوجود أنا الآن
إذ فجأة لا محطة كانت
ولا كان أي قطار به أركب/67
في الوقت الذي تنتج فيه مثل هذه الأبيات دلالة الإدانة للحزن وللعالم والزمان فإنها تنجز دلالة في عالم رؤى القصيدة وهي دلالة البحث والتقليب عن مفقود سبب غيابه أو ضياعه أزمة فقد وأنشأ هذه التساؤلات.
***
على كل تمثل هذه الموضوعةُ الدالةَ الكبرى التي ترتكز غليها البؤر البنيوية الصغرى التي يمكن ردها إلى:
القلق النفسي خاصة من عامل الزمن غير المتوقف،
محاولة التماهي مع مفردات الطبيعة سواء كانت الطبيعة الذاهبة الغائبة أم كانت الطبيعة الحالة الآن: وذلك عبر استدعائها ومحاولة التصالح معها أو عقد المقارنة بينها وبين طبيعته الغائبة المفقودة.
وستسلمنا هذه الثيمات إلى ثيمة أخرى أخيرة مهمة هي التأمل، وهو ذو حظ عظيم في تجربة محمد طايل.
التأمل في أقانيم كبرى من حول الذات: الحياة، الوجود، المصير، الغد.. واستثمار ذلك للخروج بلحظات كشف رؤيوية تصفي وتفلسف موقف الذات من هذه المعاني الكبرى.
أعتقد أن شعر محمد هو نتاج الوعي الجمالي بهذه القضايا جميعا فيما نرى..
وفيما يأتي أقف وقفات موجزة كاشفة عن شيء من هذه المراكز الدلالية، لأُتْبعها بعدُ بالنظر في بعض جماليات الأداء الشعري.
الزمان
الزمان مسوق هنا لا بحسبانه ظرفا معيشا أو زمانا هنيا، بل بوصفه باعثا على القلق، بل هو على ما يبدو الباعث الأول للقلق والمشكل الرئيس له، القلق من زمن الغد، الغد القريب في الدنيا والغد البعيد الذي هو المصير المنتظر نهاية، الزمن الذي يمضي بعمر المرء ويصنع منه ماضيا بعد أن كانت وقتا حاضرا يلذ به المرء. يتلاعب الزمان بالمرء حتى ليبدو المرء دمية بيد الزمان، وإذا بذل له المرء الطيب لم يبادله الزمن بمثله:
فالليل في تشريدنا سهر والصبح من إغفائنا قمصا
عهد الغد المنقوش في دمنا صناه والغد لم يصن فُرصا/36
زمان يفرح أو يشتهي ضر الإنسان:
وأنت ذهيل في الزمان أمامك الغد المشتهِي منك الضرار ولا عفوا/140
ويقول:
زمن يمر على حدائقنا ما إن رأى أحلامنا قنصا35
سيحظى الزمان عن جدارة بأوصاف تنفس عن مكنون الذات تجاهه فهو زمان مالح، وظلال حرور وبذر شوك. يقول:
فهذا الزمان غمائم مالحة
وظلال حرور
وبذر يخبئ للورق الشوك/18
وفي قصيدته “تذروه الريح” يفاجئنا الضمير الذي لا نعرف ابتداء علام يعود، وإذا كنا ندرك معنى الذرو والرياح فإن العنوان يضن بالمذرو، وسندرك لاحقا خلال التجربة أنه واقع على العمر أو الإنسان وأن القصيدة تجربة في الحديث عن العمر الذي مضى والزمان الذي يلاحق العمر الذي بقي، ويدرك أن العمر ليس إلا وقودا لذلك الزمان؛ يبدأ النص بقوله: فلا نحن نستطيع استعادة الماضي لأن الزمان كأنه قد كون جسرا بيننا وبينه وحال دون الوصول إليه، ولا نحن نلذ بالزمن المستقبل لأننا نخشاه:
وكم في اصفرار الضوء مغزى مجازه يعزيك فيما سوف تلقى من العيش
إنه ارتقاب العيش القادم/الزمان القادم الذي تلفه التنبؤات ويشير فعل الزمان بالإنسان إلى توقعات غير محمودة بشأنه:
وكم في اصفرار الضوء مغزى مجازه يعزيك فيما سوف تلقى من العيش
يحتاج المرء فقط أن “يجتاز” أي يفهم المغزى أو “المجاز” من اصفرار الضوء حيث يشير ذلك إلى ترقب مواجهة المصير المماثل حيث يصفر العمر اصفرار الضوء ويذوي. حيث يتسلط الزمان على العمر فيذروه بمرور العشية وضحاها كما تذرو الريح كومة قش أو حفنة تراب.
ويفصح النص لاحقا عن هذه الأزمة التي يعيشها الإنسان لوقوعه بين الزمان الماضي والحاضر المهدد بالانقضاء:
يشلك أن الغيم كان طفولة وأن اخضرار “الآن” ليس سوى طيش
كشاهد قبر للخريف معرَّفٌ ولكنك المكتوب في لوحة النقش/55
ويأتي البيت الأخير ليحملنا على تأويله بأن العمر أمر خادع كالسراب لأنه وقود للزمان، فالإنسان قد مات وانقضى أمره وقبر ونقش اسمه على شاهد القبر، وليس ما يعيشه من لحظة الآن إلا إفصاحا عما هو مكتوب مقدر، فالزمان متسلط على اللحظتين: الماضية التي صارت غيما، والآنية التي ظننا ظنا خائبا أننا ننعم بها لكن بم يكن الأمر حقيقة إلا طيشا: وأن اخضرار الآن ليس سوى طيش.
وهكذا يبدو أن المنافسة غير عادلة بين الكيانين: لحظة الماضي يسيطر عليها الفقد، والحاضر تسيطر عليها الظن الخائب، والمستقبل تسيطر عليها الخوف والقلق.
وموقف المرء من الحياة والزمن ألا يبدأها بالخصام بل يسالمها ؛ إذ هو مدرك أن ليس ثمة تكافؤ بين الحقيقتين الإنسان ، والزمان، يقول:
ترانا على غصن الزمان سلاما بلا قلق نهدي الرصاص سلاما/50
وهذا هو البيت الأول من تجربة جاءت بالعنوان الصريح” سلام مع العالم”. ويقول في قصيدة أخرى:
قال السلام عليكم يا عالمي وله يلمع مقلتين سماحا/72
وفي ثالثة:
دنياهم أخطأت تصويب عتمتها فأغمضوا عينهم جبرا لخاطرها
لا يعتبون على الأقدار كيف هوت كفازة قد تشظت فوق ماهرها/44
لكنه سيقرر في نهاية التجربة:
هذي الحياة مزاج ضيق وفم أحس عمري تبغا في سجائرها
حيث الاحتراق هو المصير . والمرء هنا وبحسب هذه التجربة “لا يطلب الكثير ” وهذا عنوان إحدى قصائده/65 وأظن أنه مع عنوان “سلام مع العالم” يمثلان عنوانين كاشفين كثيرا عما نحن بصدده.
التأمل في قضايا الحياة الكبرى
تسلمنا ثيمة القلق من الزمن إلى ثيمة أخرى تعتضد معها على إنتاج معاني القلق والبحث وتجسد مشكلة الفقد أمام الذات، إنها موضوعة التأمل والتساؤلات المستعرة داخل الشخصية، تتوجه الذات هنا بعد تسليمها بأزمة الزمن والقلق الناشب من جرائه تتجه إلى المعرفة عبر التأمل ومبادأة محيطها بالتساؤل. وفي ظل هذا الفهم يمكننا أن نقرأ قوله:
عطشت وهذي البثر خرقا دلاؤها وماذا تفيد البئر إن لم تجد دلوا/140
مرادا به المعرفة التي هي سبيل أرق كل ساع إليها، إن معرفة هذه القضايا الكبرى والدوران حولها بالتساؤلات هو هم يشقى به من كان هذا حظه من الحياة أن يغوص من سطحها إلى عمقها، والبئر عميقة تفتقر إلى الدلاء الجيدة ليغترف المرء منها.
وقد سبق أن ذهبت إلى أن عاطفة محمد طايل ليست انفعالية صاخبة بل هي تجنح كثيرا إلى الهدوء والصمت والتأمل.
وبسط الرؤية بالتأمل هو أمر قرين كل شعر يضع نفسه وسيطا بين قضايا الحياة الكبرى والكشف. وقد وشت كثير من تجارب هذا الديوان بوقوف هذا الشعر هذه الموقف من قضايا الحياة تارة باللفظ المباشر وأخرى باستنطاق المتلقي إياها.
وفي ظله أيضا يمكننا أن نقرأ عددا آخر من الأبيات التي وشت بهذا الميل نحو التأمل:
في مطلع رسالة مثيرة للصمت يقول:
ملقى على العشب
عرقلني التعب الفلسفي بفخ الحياة/21
ونحن من العبارة بإزاء مفردات تجمع الكيانات الثلاثة: الذات، والطبيعة، والحياة. فالذات ملقاة، والطبيعة هي الحاضنة: على العشب، والحياة هي الممسكة بتلابيب العقل باعثة له على التأمل وطرح الأسئلة الكبرى حولها.
أو كما قال في مطلع “كعكة عيد الميلاد”:
أحاور نفسي كأني كثير/59
وفي أخرى:
خفيفا كمنطاد يطير رأسه لأعلى الأحاجي والغموض ممجد/80
فالذات إذن بين التعب الفلسفي بفخ الحياة، وأمام محاورة النفس، وشغل الرأس بالأحاجي حيث لا مجد إلا للغموض: خفيفا كمنطاد يطير رأسه لأعلى الأحاجي والغموض ممجد
وفي قصيدته “رافعا يده على جبل الأعراف” تزداد جرعة التأمل، وهي قصيدة تفعيلية تدور حول الذات في منطقة البين بين، تأتي القصيدة في نداءات تحمل التساؤلات الكبرى وهم المصير وهم الآتي سيان جعلنا الآتي هذا مستقبلا تسشترفه الذات في الدنيا أم جعلناه مصيرها الخالد في الآخرة والقصيدة بمفرداتها تتسع للتأويلين بل لتأويلات عدة.
ينادى على الرب، ثم على الملكين المصاحبين للمرء في الدنيا، ثم على بعض الإنسان ممثلا مرة في اليد وأخرى في الرجل. وتتحمل النداءات تساؤلات وتأملات في هذه الأقانيم الكبرى:
كيف عمري المبذر؟
كصوت لزر بيانو
عمري القصير يصير عصيا على غاية؟
أو يشابه من صنعوا بين خوفين جسرا
أو يختزل رحلة ذاته في الدنيا:
لذا لم أحب مغامرة الضوء في البحث عن عاكس يتلألأ فيه
وفضلت رحلة جذر بجميزة يتودد باسم الثمار إلى ظلمة النبع
أو يطلب شهادة يديه وقدميه عن تلك الرحلة المضنية التي كانت له والتي أتاها دون ادخار لجهد:
فاعترفي بالحكاية
(أني قبضت على الجمر
خوفا على الريح سكرانة من جهات بلادي تهب فطفئ حُمرته)
فاشهدي بالمشيئة
أو فاشهدي بالجميلة
ثم تكون آهة التسليم نهاية وانتظار أي مصير بعد متاهات التفكير فيه ودهاليز التذكر المتعددة التي استدعيت من داخلها الحكاية:
إذن
فاض عن كاهلي الصبر يا كبريائي
خذوني لأي مصير
عدا أن أسمى هنا: رجلا قد بنى بين خوفين جسرا وعاش عليه/117
إن الذات نهاية تطمح في الخلاص والحال التي تأباها لنفسها هي الوقوع في هذه المنطقة الرمادية الضبابية منطقة الما بين بين؛ عدا أن أسمى…
وفي الوصول هامش الرحلة” سنرى ثيمة المصير كذلك والضبابية التي تلاحق المنتظَر وتعمي عليه، تضع القصيدة بين يديها وعلى صدرها السؤال بارزا:
تطير لأين وجوك غائم
تطير لأين وفي كل غصن تعشش مرثية للقوادم/119
سنلاحظ أن القصيدة تقدم الذات بما يسمها دوما بالحركة والتوفز بدءا من فعل ” الطيران” الذي فيه تمام الحركة والتملك والتحرر، لكن الأزمة ليست في احتشاد الذات بالتوفز والتحرك بل في البوصلة، في الوجهة، في الأين، في المصير، وهذا يفرض تحديا على الذات الواقعة بين امتلاء التحرك وإخفاقات البوصلة المضطربة والمحاولة هنا هي ما تملك الذات أن تقدمه حلا لهذا التحدي:
لذا سأطير بلا سبب للوصول وإن الهواء مسالم
وفي “كيف الحياة” ستعود تلح مسألة البوصلة من جديد، وهي وإن كنا قد استنبطناها ثمة فإنها في هذه التجربة تسفر عن نفسها:
يمر بي غافل عن وجه رحلته أشرت: هذا رفيق العمر يا أم
تهيم؟ كلا ولا سر لأخفيه سفينتي في البراري ما لها يم
كيف الحياة”؟ أعد هذا السؤال بلا”كيف” فإن موازين الأسى كمُّ
وسنرى أن هذه الثيمة كذلك تفرد لها قصائد بعينها بدءا من عنوانها، لاسيما : تأملات، وكيف الحياة، رافعا يده على جبل الأعراف، إجابة أخيرة.
لحظات الكشف
تسفر حالة التأمل تلك عن كثير من لحظات الكشف كما أحب أن أسميها، ومن ثم فهي ليست حالة مجدبة لا تنبت، ليست حالة من الدوران العقيم حول قضايا الذات التي تؤرقها، بل تحاول قدر ما أتيح لها من إمكانات الرحلة والوجهة والمحاولة أن تستولد عنها لحظات رؤيوية تمكن الذات من استحصاد عودها.
وهذا حقيقة هو ما يجعلنا نصبر على لحظات التأمل الممتدة في تجارب الديوان، أنها ليست دورانا في حلقات مفرغة مجدبة، بل تستثمر على إنتاج هذه الرؤى الكاشفة:
وها أنا يا ألله رهن لرمية تدحرُجُ وجه النرد فيها مؤبدُ/80
كشاهد قبر للخريف معرف ولكنك المكتوب في لوحة النقش58
تعلمت أن المخالب تنمو لا لقطف الجراح بل لكي أتسلق للنور من هاوية/61
تلك فروسية النبلاء أن تقرر ثم تصير القرار/113
لذا سأطير بلا سبب للوصول وإن الهواء مسالم/121
لمثلي حياة: أن يزول بنقصه وليس لمثلي أن يعيش على شكوى/142
ومن أراد مزيدا من هذه اللحظات التي تعد حصادا لمساحات التأمل والتساؤل المشروع على الذات والمصير والزمان وغيره من الهموم الكبرى يقرأ تجربته “مرآة خارج الكهف”، وفيها من هذه اللحظات:
الرصاصة زاوية غير محسوبة في مخطط كل العصافير
ولك أن تحل محل الرصاصة والعصافير الإنسان والزمان فهما مقصود التجربة الأول. وبالمناسبة يعلم الإنسان أنه صيد وأن يد الزمان على الزناد ويجري من ثم مخططاته على ما تلاحظ تجربة طايل هنا، لكن دوما هناك الثغرة والزاوية التي تخرج عن إطار المخطط لتأتيه منه رصاصته لا محالة.
الرصاصة زاوية غير محسوبة في مخطط كل العصافير
الشعوب غصون ذواها التناسي وحطبها القدر المتوارث في مدفآت الملوك
الطفولة حرث المقدس من كل شيء
وللوقت فأس
وخطو القطيع سنابل قمح
وما الواقعي سوى حلم للخيال
عم صباحا إذن
سيقلبك الله فيه لسر وأنت نؤوم
كفتية كهف/138
الطبيعة
التماهي مع الطبيعة هنا عبر استدعاء مفرداتها هو فيما نرى محاولة للتقوي.. للتعزز.. للبحث فيما يتصالح معه المرء لاستدفاع هذه الأزمات الكبرى المشار إلى شيء منها آنفا، بحسبان الطبيعة هي البكارة أو هي الفطرة الأولى أو هي الأم الأولى أو هي الحصن أو هي الحِضن. ثيمة الطبيعة هنا مفضية ولا شك إلى معنى/ثيمة اللجوء الذي تفتقر إليه الذات من جراء فقدها أمورا تخص بناءها.
ومن يطالع الديوان يجد الطبيعة عبر مفردة من مفرداتها تطل عليه دوما، وسيراها غالبا في سياقين:
الأول: الالتجاء إليها ومناشدتها ونداؤها واستحضارها عبر مفردات متنوعة للتماهي معها والتقوي بها.
الآخر: الإلحاح على مفردة بعينها للتعبير عن العمر الضائع والزمن المفقود والذات المموهة بينهما؛ نعني مفردة الحطب عبر تقلباتها الصرفية كالمحطبة وعبر ما يلزم عنها كالنجار والحطاب والقطع والاجتثاث ونحو هذا.
ومن السياق الأول: استدعاؤها في سياقات انكسار الذات
قعدت فوق حطامي ذاريا ورقي في الريح أرقب فيّ الهمس والجهرا
فتشت في حيرة عن حقل معرفتي فما رأيت على أغصانه طيرا
يشدني عندليب من ثياب غنائي للطبيعة ضمادا به كَسْرا
أنا ابن غاب سؤالي ما صنوبرة نمت بريحي إلا كنتها جذرا
حنين روحي ظمي مثل محطبة إلى الأصول إلى أشجارها الخضرا
شكرا لعصفورة غنت على حطبي وذكرتني بما قد كان لي شكرا/27
وفي تجربة تفعيلية يقول:
قلبي أخفى جناحيه
من هجرة السرب حتى تمر سلاما
وحتى يربي عصفوره أن يغني وحيدا
فقل لي لماذا إذا قلت :
حزني غزال بمرعى المواقيت يجري ورائي
يكذبني الصائدون؟/23
وفي “رقص على جرف هار “نداء للطبيعة عبر مفرداتها وتماه معها:
تعالي رياحا تَفرشُ العزف خيمة لتصطك أغصان الخميل وتنشد
تُراقص غزلان الحنين كنانتي ويسكر عصفور بحكيي مفرد
تراني نسيما والبيوت رئاتها مغلقة الأبواب والريح تُطردُ/79
بل وفي عتبة بعض التجارب نلمح هذا اللجوء للطبيعة كذلك.
بل يمكن تتبعها أيضا في عنوانات القصائد: نهر غارق في فمي/العازف في الماء/عصافير عششت في الكهوف/معاهدة الخميلة/تعالي عاصفة كأني ريشة/قمر مبلل بالضوء
الحطب: فناء ما كان حيا
المعنى الثاني والمهم الذي يفيد الكاتب من مفردات الطبيعة في بنائه هو اتخاذ هذه المفردات معمارا لفكرة القطع والاجتثاث والتيبس أو التحطب أو غيره من مفردات فناء ما كان حيا. تبدأ تنشئة هذا المعنى وليدا من العنوان الرئيس للمجموعة ثم يشب ربيبا داخل التجارب الأخرى على امتداد الديوان.
ثم تتقلب هذه المفردة عبر بنيات منها:
محطبون بفأس الحزن يا شجر ولم يلوح إلى أغصانهم مطر/31
لأنني غابة جاورت ورشة نجار الحنين فصارت هيئتي جسرا
حنين روحي ظمي مثل محطبة إلى الأصول إلى أشجارها الخضرا/29
شكرا لعصفورة غنت على حطبي/29
في كل محطبة بالغاب يهمس لي فم الرماد: أدر عينيك يا ولد/125
أعطي البلاد عرائي مثل محطبة عصت على ناجر فاقتاتها الفحم/131
سقاك كورد الروض واستعذب القطفا/15
لا غصن يفهم دمع الفأس في مزق
أتذكر أول أغنية ذرفتها دموعي غيما على شجر حطبته كرامته ثم لم يعد الآن مغنمة للعصافير /63
إن الطبيعة حين تبذل للشاعر هذه المفردة فإن شاعرية محمد تلتحم معها على أنها معبر عن أزمته التي سبق أن رصدناها ثيمة واصلة بين معاني الديوان، وهي ثيمة فقد الذات نفسها، فلا ريب أن واشجة بين” القطع، اليبوس، الجفاف، ” المحمولة على الأخضر في الطبيعة وبين انقطاع العمر وذهابه واقتطاف الأحلام وتيبس الأمل ؛ ولهذا نقول إن مفردة” المحطبة” وما يجايلها من مفردات هي معادل مهم للأزمة الأولى المشار إليها، ومن ثم تكثر تجارب الديوان من استدعاء هذه اللفظة على ما رصدته الآن وتداخل بينها وبين الذات. ولنقرأ مثلا قوله من قصيدة “رحلت بعيدا” ملاحظين هذا التداخل بدرجة كبيرة ملحوظة:
نظرت إليك
نظرت إلى
[لاحظ تقاطع المسارين: مسار الشجرة، ومسار الإنسان]
مضينا طريقين منحنيين
وكيف أصحح يا رب يوما إلى قدري قدرهْ
وفي كل أخرى رأيتك أنت
كأني غصن تقطع من شجرةْ
صار مائدة للتسامر
صار عصا للتوكؤ
صار لبُعد المسافات لافتة
صار لوحا بحكمة حزن قديم
كما صار بابا لبيت التذكر
في كل حال تبدَّله صاح في حاله:
إنني نكرةْ/97
يذكر بأبيات للبردوني:
وأدخل حين تنام الغصون إلى الجذع، أشتُّ مابيَّتا
إذا صرتَ باباً، أتنسى الجذور؟ ألا تذكر الصخرة المنحتا
تلك كانت أبرز الثيمات التي تدور حول مركز بنيوي هو البحث المتضمن داخله فقدا. ولا تكاد تجارب الديوان تخرج فيما أرى عن مجموع هذا المراكز الدلالية، إلا قصيدة أو اثنتان تعد تغريدا خارج السرب، كقصيدته “عمامة خضراء” التي اتخذت أحد الأصدقاء موضوعا لها/53
وأعتقد أن هذه الثيمات كبرى وصغرى تعيش حالة من التناسق الدلالي فيما بينها، وأنها تتعاضد وتتماسك لتبني الفعل الشعري.
ما يتعلق بجماليات الأداء الشعري
يمكنك أن تجد شاعرية هذا الديوان أيضا في
التجريد
كثير من تجارب طايل لا تأتيك من باب المباشرة والوضوح
الذي يصل أحيانا إلى الإغماض، ويشف كثيرا عما تحته من معان كثار، وهو في حاليه موائم مقادر الرؤى ومواكب لحظة الشاعرية العامة التي يعيشها هذا الجيل وجيل سابق له من أعلامه في هذه الجزئية خصيصا أحمد بلبولة وسيد يوسف، وعبد الرحمن مقلد وغيرهم ممن ضاق بماديات هذا العالم وراح يحيل المادية المجحفة المحدقة بالذات إلى عوالم رؤيوية ولوحات تجريدية.
ولن أطيل في هذه الجزئية وتكفيني فيها الإشارة السابقة من أن أن تجارب الديوان في بعضها تقف على شاطئ التجريد وفي بعض آخر تنغمس بالمتلقي إلى الداخل، وهو إجمالا تجريد لا يلبث أن تتشقق عنه قشرته ليعطي معناه حيث النص يومئ وإن كان لا يصرح ويوحي وإن كان لا يقرر ويمنح المساحة الكبيرة من التأويل ليمارس المتلقي حظه من بناء الدلالة.. كما ستؤشر جماليات التجريد تلك إلى رغبة في الاحتفاظ بالمتلقي مع رغبة في تفعيل دوره.
تجويده الموسيقي
يلعب الديوان على وترين من قيثارة القصيدة العربية: قصيدة البيت، وقصيدة التفعيلة، وهو فارس يجيد التنقل باقتدار فوق صهوتيهما، وفي كل مرة كنت أشفق من كبوة متوقعة بين الأوتاد والأسباب والزحافات لكن إشفاقي لا يلبث أن يتحول استحسانا وإعجابا حين أراه قد قفز بحصانه من أعلى التقاء ساكنين أو استفهام أو جمع خبرا إلى إنشاء في البيت الواحد وبين تفعيلتين متجاورتين.
ولا أقف بالإجادة الموسيقية عند حدود موسيقى الإطار فحسب حتى أجمع إليها ميزة حظيت بها قصيدة طايل من زاوية الموسيقى، وهي تخص اللفظة ذاتها؛ لفظة محمد موسيقية وبناه الصرفية مموسقة يتصل بعضها ببعض في نوتة موسيقية جيدة تغري بالتلحين والتوقيع والغناء رغم أن البيت ترى فيه الاستفهام والجواب والاعتراض والوقفة ونحو هذا.
زد على ذلك أن شعر البيت لديه أو ما يعرف بالشعر العمودي لا ترى فيه غالبا مكانا لحشو موسيقي، والحق أن الحشو الموسيقي آفة كبيرة تعاني منها قصيدة البيت في شعر من لم تستحصد أعوادهم من الشعراء، وكثيرا ما تكشف تحشية البيت بالألفاظ عن الفجوة بين ما هو لغوي إبلاغي وما هو موسيقي إيقاعي، فلا يجد الشاعر أمامه إلا تحشية البيت وصولا إلى القافية فيقع التزيد في المعنى والتكرار المستفز حقيقة.. قصائد محمد تبرأ من هذه الوصمة إلى حد بعيد.
وفي المخيال التصويري الفني
جزء مهم من شاعرية الشاعر الصورة، وجزء مهم من شاعرية الصورة الطرافة، لكنها الطرافة التي تنجز روية وتنتج خطابا.
أول أمارات التجويد هنا إذن الطرافة الناشئة عن خلط المادي بالمجرد ، وأقتطع منه:
مفردا مثل قطرة ماء هوت فغفت فصحت بين قطرات زيت/9
عمري القصير كصوت لزر بيانو /112
أو يخاطب نفسه: لم لا تصرخين كسيف يجرب شفرته لأول مرة/116
كما يعرف الضوء أي جدار سيوقفه في الخفاء/23
يشدني عندليب من ثياب غنائي للطبيعة/27
سأهد سقف بديهتي لأرى ظلي جواري أم تراه عصى؟/37
نشاكس صمت الليل نركل بابه وما شمر الليل الفتيّ خصاما
مساكننا جوعى لمزمار سهرة يمر عليها الأصدقاء طعاما/51
الظل ليس سوى دم ضوء قد انتحر الأمس من سفر أبدي/137
وأحيانا تتكثف الصور حول محور واحد كاشفة عن مقدرة على تسكين الخيالات الدائرة حوله في الوقت الذي تكشف فيه عن العطاء الدلالي الذي في إمكان الصورة أن تبذله. وهو من الآيات الدالات على مقدار الشاعرية:
كشاطئ ما بنى طفل به قصرا
كشارع مطفأ ربى الصدى صبرا
كدمعة خلقت، لا للحنين ولا للهفة بل لمعنى خاطئ يعرى
قعدت فوق حطامي ذاريا ورقي في الريح أرقب فيّ الهمس والجهرا/25
تذكرنا بطريقة كان أولع بها محمود حسن إسماعيل في بعض تجاربه حين يكثف الصور حول معنى واحد:
كالشجا في اللهاة كالهم في المهجة كالموت في ربيع الحياة
كرمام القبور كالبيدر المهجور كإثم يطيف عند الصلاة
أو بالشابي في صلوات في هيكل الحب:
عذبةٌ أنتِ كالطُّفولةِ كالأحْلامِ كاللَّحنِ كالصَّباحِ الجَديدِ
أنتِ قدسي ومَعبَدِي وَصَباحِي وَرَبيعِي ونشوَتِي وَخُلُودِي
وفي قصيدة أخرى يقول:
أسماؤنا مثلنا نعسى الملامح يا نهْر انتظر لفطور الليل يا نهَر
(ثم لا يكتفي بهاتين الصورتين حتى يردفها بصور أخرى)
حيث الخسارات دف
والغناء أكف
والطريق حكايا والمدى سفَر34
وفي رأيي أن جمالية صورة محمد طايل لا يقف وراءها الطرافة والغرابة فقط؛ بل يؤازرها كذلك ذلك الإحساس بمفردات تكوينها وترشيحها – يعني الاستطراد والاستقصاء –بما يجعلها تخرج عن رفاهية الإبلاغ واستعراض المقدرة إلى أن تكون وسيلة كشف عن الثيمات التي أفردت القول فيها آنفا.
تجدون محمد طايل أيضا في النص الموازي/العتبات
بدءا من الاختيار الذكي والشاعري لنص العنوان مع محتويات الغلاف، ثم مع النصوص المصاحبة التي تنزل من النص الأصلي منزلة العتبة الواشية بالمضمون أو المهيئة المتلقي أو حتى المعمية عليه.
عنوان الديوان:
في نص العنوان أتوقف فقط عند ملمحين استدعيا مني التوقف
المنحي الأول دون ريب كامن في المجاز الذي أحل الأثر محل مسبب الأثر: أعني أحل الظل محل الشجر الذي هو سببه ومكونه. في المدونة البلاغية القديمة أن هذا مجاز مرسل ذو علاقة مسببية وأن أثرها هنا تحريك الذهن وتنشيط السامع؛ وهذا كلام صحيح إذا أردنا لمح الأداة نفسها وهذا مجاله قاعة الدرس، لكن يطيب لي أن أصرف الجهد عن الأداة إلى النظر في خطاب الصورة وما تحدثه من جماليات وألا أحبس الأثر في مسألة تحريك الانتباه تلك فحسب..
وأحسب أننا بإزاء عدول من لفظة الشجر إلى لفظة الظل يختصر الشجرة فيما تريده الذات وتفتقده، ليست الشجرة في ثمرها أو جمالها أو طيورها؛ الشجرة هنا في ظلالها، وإذا كنا قد أدركنا مما سبق أننا بإزاء ذات حيرى قلقة فإن الظلال هي الواحة التي تريد الذات أن تفيء إليها فعندها الإجابات عن التساؤلات ، وإذا كان للنفي من دلالة هنا: “لم يقطعها” فإنه سيؤكد هذا المعنى وحيوية هذا الدور الذي للظلال أن تفعله؛ هي النقاط الباقية لم تقطع ولم تمح عن الطريق ليتبين السالك إلى المعرفة وإلى إجاباته تلك الطريق، وهي المساحة الباقية التي من الممكن التشبث بها.
الظلال هي الواحة، هي مظان إيجاد المفقود من الذات، هي النقاط الباقية من الذات والباقية للذات، الظلال هي القصائد
والمنحى الثاني كامن في احتواء العنوان على ذلك النفي:”..لم يقطع..”، وربما لا تحسم عبارة العنوان دلالة نفي القطع حسما أكيدا؛ فالظلال لم تقطع مطلقا أم لم يقطعها الحطاب بل قطعها غيره. والتشعب إلى تأويلين هنا مسألة تصنعها اللغة العربية بذكاء وإمكانات رحبة على الأداء. وأعتقد أن ترك الباب مفتوحا على التأويلين أولى من حسم القضية مع منح التأويل الأول وجاهته وبريقه: أننا بإزاء ظلال باقية لم تصل إليها يد حطاب.
عتبات القصائد:
وهي كثيرة، خاصة في القطاع الدلالي الأول للديوان: “عصافير عششت في الكهوف” وفي نص العتبات سواء الممهدة أو المتلاعبة بالمتلقي لمحض التلاعب، وقد لفتني أنها من الامتلاء الدلالي والتكثيف بحيث تنهض نصوصا بذاتها قد تمثل قصة ومضة وهو شكل قصير تطور أو انسلخ عن القصة القصيرة جدا. نماذج: 129
لا أعني بذلك أن أشاكس قضية نقدية دارت بها الأوساط النقدية وأستحضرها هنا وهي قضية تداخل الأنواع والفنون وارتحال بعضها في بعض بقدر ما يعنيني قضية الامتلاء الدلالي التي أشرت إليها آنفا، ثم قضية أخرى وهي فكرة أن محمد حين يجرب قلمه خارج الوزن والشعر فإنه يبدع أيضا، حيث تختص هذه النصوص بخصيصتين مهمتين فيما أرى: كونها مفعمة بالخيال المحلق الذي من أهم تجلياته الصورة والترميز، ثم كونها تحتقب رؤية لها وحدها وتنشئ خطابها الخاص.. يتعزز هذا من زاوية المكان الذي تشغله هذه النصوص بحسبانها فواتح للنصوص كما يشحذ هذا – من زاوية أخرى – المتلقي لأن يتلبث بإزائها بحسبانها جسر عبور بين نص العنوان ونص القصيدة.
تحيل المفاتيح السابقات إلى شيء أخير وهو آخر ما أتكلم عنه بشأن شاعرية طايل في ضوء هذا الديوان ومن منظوري المتواضع: وهو السمو بالمتلقي لأن يعايش، لأن ينقب عن لآلئ المعاني في أصدافها، لأن يتنبه لخيوط المعاني والعلاقات الناشئة بين أطراف الصورة، وكذا العلاقات الوليدة بين المتضايفين والمتساندين: المبتدأ والخبر أعني والفعل والفاعل.. يبدأ دوره من ملاحقة هذه البنى الصغرى لكي يُتم الدلالة ويقرأ الخطاب وتُنجز من ثم نصية النص. قصيدة محمد تمد يدها للمتلقي لأن يمارس دوره ويفعّل حضوره في مواجهة النص، بعض نصوص الديوان تقلص نسبة المتلقي إلى نخبوية، لكن الأكثر يمد هذه اليد للمتلقي ليتم دوره باقتدار دون إغماض.
توصيات:
أختم كلمتي بتوصية رأيت ألا أضن بها على محمد، وأعرف أن صدره يتسع لها. وهي ليست من فبيل التوجيه أو النقد الكلاسيكي المعياري الخانق عملية الإبداع:
أود أن تمتزج هذه الرؤى الثاقبة لحقيقة الإنسان والعمر والذات والزمن بالأسطورة وأن تفعم بالرمز وتتزيا بأزياء درامية حكائية؛ أعتقد أن في مثل هذه التقنيات ما يمكنه أن يصقل الرؤية ويجعلها تجاوز الذات في الوقت الذي تحلق فيه بما هي شعر حول هذه الذات، زيادة على أنها نعم الترجمان عن ثقافة المبدع، وهي أدوات في مكنة شاعر بإمكاناتك. ليست هذه التوصية من قبيل التوجيه نقديا كان أو أخويا بقدر ما هي محاولة لأن نستشرف بهذه الموهبة الناضجة ما يليق بتفجر شاعريتها.
يأتي في ركاب هذا أيضا..
أننا كنا نود أن نعيش مع الشاعر حالة من الصراع الشعري؛ حيث يتصاعد فعل شعري عبر تقنيات درامية، ويكثر هذا في الشعر التفعيلي حيث يزيد وهج القصيدة وتعيش لحظة توتر دلالي باسترفادها من نظيرتها القصة أو حتى المسرحية.
كما أن الرمز في التعبير الشعري يلازم اللغة الشعرية الخيالية القائمة على المجاز والمفارقة للغة العقل والمنطق ، فهو من افضل المسالك للتعبير عن الذاتية النفسية وسبر اغوارها لأن جوهر الشعر الذي يعبر عن عمق التجربة قد لا يبدو واضحا او محدد المعالم.
تتوارى/ تقل اللحظات التي يحدثنا فيها الشاعر عن القصيدة وعناء مواجهتها واقتحام الرؤى من خلالها، وقد دأب شعراء هذا الجيل متغنين بهذه الثيمة في أشعارهم محتفين ببنوتهم لمحمود حسن إسماعيل أو بالجد الأول أبي الطيب، بل أكاد أفتقد ضمير الأنثى – لا أدري أنقمة عليها أم اتخاذا لموقف ضدها- في ظل هيمنة ضمير الذات المعذبة من القلق الحائرة في كنه الزمان المتشظية مع تخوم المكان: الأنثى المرأة، والأنثى القصيدة. رغم أن عتبة الديوان الأولى ممثلة في نص الإهداء عن عبارة لوركا المفارقة كانت تعد بذلك: أكثر الأفراح حزنا أن تكون شاعرا
وثمة ما يمكن الالتفات إليه كذلك بخصوص موسيقا تجاربه التفعيلية: فقط نريد منه إتحافنا بمزيد اهتمام بالقافية في قصيدته التفعيلية، وجلي أن هذه الأخيرة تتعطش إلى ذلك؛ حيث تغنى موسيقاها بهذه القوافي التي تقوم على نظام التناوب ولا أقول التكرار أو التواتر على نحو ما تطالعنا قصيدة أمل دنقل مثلا في البكاء بين يدي زرقاء اليمامة: المناوبة بين قافية الألف والنون: قطعان، جرذان، نسيان. وقافية السين والهاء: مقدسة، مدنسة، مجالسة.. قيودا وئيدا.. ونحو هذا.. أظن أن قصيدة التفعيلة تتعطش لهذا الأمر بما هي شعر وبما هي موسيقى ثم بما أن أمثال تلك القوافي تطل علينا بين الحين والآخر كومضات الطريق الضوئية الكاشفة فتذكر بالترابط الموسيقي والصوتي في الوقت الذي تصنع فيه شواطئ راحة ووقفات بين المساقات الدلالية. (كان من بين الثغرات التي نبه إليها غير واحد من فرسان التفعيلة لا سيما نازك مسألة اللهاث وراء المعنى فيما أسمته بالتدفق المتجلي عبر مظهرين: طول العبارة الشعرية، وصعوبة اختتام القصيدة. طبعا لا أريد أن أتخطى بهذه الملاحظة إلى مناقشات بحثية أكاديمية الآن. وحسبي فقط أن أنوه بأن لبنة مهمة احتاج إليها الجدار الموسيقي المتميز حقا لقصيدة طايل التفعيلية، وكم رددت بيني وبين نفسي وأنا أقرأ: لولا وضعت هذه اللبنة).
كما أن لدي تساؤلا أراه مشروعا حول باقة الأوزان العربية التي لم يختر منها طايل غير الطويل والبسيط والكامل الذي ظهر على استحياء في تجربتين، والمتقارب الذي انفرد تقريبا بتجاربه التفعيلية. أين بقية الغنائيات.. لماذا حرمت نفسك التغريد على ألحان أخرى كانت لتثري الديوان موسيقيا على نحو أكثر عمقا وأبعد تفننا، أين الخفيف والمديد والرمل والوافر والمضارع..
ومن ثم أضم إلى التوصيتين الأوليين هنا التذكير بمسألة الاستفادة من العطاء الموسيقي للنوتة الشعرية العربية بما فيها من أنغام ثرة، وشعرية طايل قادرة على أن تفيد منها باقتدار..
نهاية.. أحييه شاعرا وأحييه درعميا.. وأهنئه بالشعر وأهنئ الشعر به.