في المشهد السياسي، يختلط على البعض التفريق بين الاختلاف المشروع مع السلطة، بوصفه حقًا ديمقراطيًا، وبين العداء المطلق لها، الذي يُقوِّض استقرار الدولة ويضعف مؤسساتها.
هذا الخلط لا يُعبر عن نضج سياسي، بل هو أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ”المراهقة السياسية”، حيث تغيب الرؤية، وتعلو الشعارات، ويتصدّر المشهد من لا يملكون مشروعًا سوى الهدم.
إن الاختلاف مع الحاكم، ومع السياسات العامة، ومع النهج الاقتصادي أو الإداري، ليس ترفًا سياسيًا، بل هو جوهر العمل العام في الدولة الحديثة. فبدون اختلاف، تتحول السلطة إلى استبداد. وبدون نقد، يغيب الإصلاح. ومن هنا فإن المعارضة — في صورتها الرفيعة — ليست خصمًا للسلطة، بل شريكًا في دفعها نحو الأفضل. هي عين الشعب حين تغفل السلطة، ولسان الناس حين يصمت المسؤول.
لكن، حين يُستبدل هذا الاختلاف بعُقدة عداء شخصية مع النظام، أو يتحوّل النقد إلى وسيلة لتصفية الحسابات أو تصفية مؤسسات الدولة نفسها، فإننا لا نكون أمام معارضة، بل أمام انتحار سياسي مغلف بشعارات الثورية.
فالمعارضة ليست صخبًا في الشارع، ولا تغريدات غاضبة في الفضاء الإلكتروني. إنها مشروع متكامل:
رؤية بديلة، أدوات مدروسة، احترام للقانون، وعمل من داخل الدولة لا من خارجها. هي التي تؤازر السلطة لا تُخاصمها، تُصحح الخطأ لا تُضخمّه، تطرح البدائل لا الاكتفاء بالنقد المجاني.
إن المعارضة الحقيقية لا تقيس نجاحها بعدد اللافتات التي ترفعها، بل بمقدار التأثير الذي تُحدثه في السياسات العامة، ومدى انحيازها للمصلحة الوطنية العليا، حتى ولو اقتضى ذلك تأييد بعض قرارات السلطة حين تتطابق مع الصالح العام.
على الناحية الأخرى، تقف “المراهقة السياسية” كصورة نقيضة للعقل السياسي الرشيد. هي الحالة التي يتوه فيها الخطاب السياسي بين التخوين والتخوين المضاد، وبين الشعبوية والتضليل، وبين الرفض من أجل الرفض.
المراهقة السياسية لا تصنع معارضة، بل تُنتج ضجيجًا يُطرب بعض الغاضبين، لكنه لا يُغير شيئًا في الواقع. هي حالة من العبث تُسهم — بقصد أو بدون قصد — في هدم جسور الثقة بين المواطن والدولة، وتفتح أبوابًا للفراغ السياسي الذي لا يملؤه سوى التطرف أو الفوضى.
فالوطن لا يُختزل في سلطة حاكمة، كما لا يُمنح لمعارضة تصرخ دون مشروع.
الوطن كيان أوسع من الجميع، ودوامه واستقراره مرهون بقدرة نخبه السياسية على ترسيخ ثقافة الاختلاف البناء، لا العداء الهدّام.
المعارضة الحقيقية لا تسعى لإسقاط الدولة حتى تُثبت وجودها، بل تظل في خندق الوطن، تنتقد حين يلزم النقد، وتؤازر حين تستدعي الحاجة.
أما أولئك الغارقون في مراهقتهم السياسية، فعليهم أن يُدركوا أن الأوطان لا تُبنى بالشعارات، بل بالعقول الراشدة، والقلوب المخلصة.
اقرأ أيضًا: طارق العوضي يكتب: ما بين الحوار الوطني وقانون النواب.. بضاعة أتلفها الهوى