تنبع أهمية فيلم عرق البلح لمخرجه رضوان الكاشف من عناصر سينمائية كثيرة مبهرة وظفها «الكاشف» لصنع عمل غاية في الجاذبية يجمع بين صورة سينمائية استثنائية، وسيناريو مكتوب بحرفية شديدة.
يدور الفلم حول نجع يزوره رجل غريب ليدعو الرجال إلى السفر للعمل في الخارج، فيذهب كل رجال النجع ماعدا الجد الأكبر المريض، والشاب أحمد علي، الذي تربطه علاقة غرامية مع تقدم الأحداث بسلمى.
الواقعية السحرية
يمكن تصنيف الفيلم ضمن أفلام الواقعية السحرية، وهو نوع تفتقر إليه السينما المصرية طوال تاريخها، فمع طغيان المشاهد الواقعية طوال الفيلم، نجد مشاهد أخرى فوق عادية محاطة بهالة تجعلها أقرب إلى الأحلام تتخلل تسلسل الأحداث.
من أبرز هذه المشاهد المشهد الذي يدعى فيه رجال القرية للسفر، ومشاهد موت الجد، وأحمد حيث يصورهما رضوان الكاشف راكبان على ظهر فرس، مغادران به النجع، وكأنه يرى أن الموت هو الرحيل والتيه في صحراء شاسعة لا نهاية لها.
أسلوب السرد الدائري
يتبع الفيلم أسلوب السرد الدائري، حيث يبدأ الفيلم بالقصة من آخرها، بمشهد لشاب غريب يحمل حقيبة سفر ويسير وسط الرمال، إنه عائد إلى النجع الذي رحل عنه أبوه. يجوب الغريب ممرات القرية، فلا يجد سوى أطلال بيوت خاوية، وبعد بحثه لفترة عن أي إنسان يرى بالصدفة جميلة ابنة سلمى، والتي تهرب منه فيلاحقها ليجدها عند الجدة العجوز، التي تحكي له عن طريق «الفلاشباك» ما حدث للقرية وأهلها.
ربما وظف رضوان الكاشف تقنية السرد الدائري ليشير إلى أن القصة التي يحكيها، أي قصة الغربة، والفقد، والرحيل قصة قديمة قدم الإنسان، ولا تنتهي أبدًا.
تحول النساء إلى أشباح
تطغي على معظم الفيلم حالة من الفقد والألم التام، وكأنها تلف الواقع بغلالة رقيقة يرى من خلالها الشخصيات العالم.
فعلى الرغم من أن نساء القرية تتدبرن أمورهن بشكل جيد وحدهن، إلا أن هذا الفقد المؤلم للأزواج والإخوة والآباء يحول بعض النساء إلى أحش.اح بالتدريج، فنرى إحداهن تطوف القرية، وكأنها قد فقدت جسدها بعد انقطاع أخبار زوجها.
ونرى الأخرى وهي شفا، وقد تحولت إلى عود يابس بعد فراق زوجها الذي جمعتها به حب ملتهب جعلها تتلهف إلى زواجهما، إلا أنه وعقب الزواج مباشرة تركها زوجها وحبيبها ويسافر.
تظهر شفا في حالة من الألم المستمر، كما تصفها سلمى حين تحكي لأحمد عما حل بشفا في أحد المشاهد. ولكن شفا التي جف جسدها قبل الأوان، تحاول التمسك بالحياة فتلجأ باحثة عن القليل من الحب إلى إقامة علاقة جسدية عابرة مع أحد الطبالين الذي يزور القرية في واحد من الاحتفالات، وينتهي الأمر بحملها.
كما تظهر هذه الوحدة والحاجة إلى الجنس والحب في شخصية سليمة، التي تتحول إلى امرأة صعبة المراس، تبالغ في التدخين لتتخلص من تعكر مزاجها، وعصبيتها المفرطة.
وعلى الرغم من تجلي مشكلة سليمة الأساسية بشكل واضح في الرغبة التي أججتها سنوات الغياب، إلا أن المشكلة تزداد تعقيدًا مع النهاية، فعندما يعود زوج سليمة تكون رغبتها قد خمدت، إنه ما تفعله الوحدة بالبشر، حيث ينتزع الألم الطويل الرغبة في الحياة.
حين تطلب نساء القرية أحد الفرق الموسيقية لإقامة احتفال، ترفض الفرقة قائلة أنها لا تغني للنساء، وهنا تقول أكبر نساء القرية، والتي كانت في يوم ما أمة للجد الكبير: «يا ويلك من نجع الحريم»، ثم تتنكر في زي رجل، وتنجح في خداع الفرقة التي تأتي إلى النجع للاحتفال بالفعل.
إلا أن مشاكل النجع لا تقف عند ذلك الحد، حيث يبدأ اللصوص في سرقة البلح الخاص بالمكان، ويقومون بضرب أحمد علي الذي يحاول الدفاع عن محصول بلدته. لذلك تنتفض النساء، ويتجالسن طوال الليل بانتظار اللصوص للدفاع عن بلحهن، لكنهن يتفاجأن حين يتكشف سر العلاقة التي أقامتها شفا مع الطبال.
هنا تلعب النساء دور الجلاد، دور الرجل صاحب السلطة على حياة من حوله، ويلعبن دور القاضي بالنيابة عن الرجل الغائب، فيجبرن شفا على حرق نفسها إلى أن تموت.
العودة والانتقام
حين يمارس الحبيبان سلمى وأحمد الجنس لأول مرة، وتحمل سلمى نتيجة لذلك، يكون رجال القرية على بعد مسافة قليلة من العودة إلى المشهد، وهذه العودة لا تجلب معها فقط انقلابًا كليًا في واقع النجع، لكنها تحتم ضرورة التخلص من تبعات الفترة التي قضاها المكان بلا رجال تقريبًا.
يتكشف حمل سلمى، كما يتكشف سبب انتحار شفا، ليصبح أحمد الشاب الوحيد بالمكان، هو محل الشك من الرجال العائدين.
لذا يقررون التخلص منه بحيلة مخطط لها، يقررون التخلص من الشاب الوحيد الذي قرر البقاء، والذي يدفع ثمن وجودة وشبابه الذان بقيا لفترة طويلة نادران في النجع بأن يموت هو الآخر.
في المشهد الختامي تنعي سلمى حبيبها قائلة:«مع السلامة.. مع السلامة ياولد عمي.. مع السلامة يااخويا.. مع السلامة ياجوزي .. مع السلامة ياحبيبي».
عن عرق البلح
حصل عرق البلح على الجائزة الفضّيّة في مهرجان قرطاج، وشارك في مهرجان أبو ظبي سنة 2013، وحاز على المرتبة ال 18 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العربية حسب استفتاء لنقاد سينمائيين ومثقفين قام به مهرجان دبي السينمائي الدولي في الدورة العاشرة للمهرجان.
كما نافس في المسابقة الرّسميّة لمهرجان السّينما الفرانكفونيّة الدّولي في نامور ببلچيكا سنة 1999، وفاز بجائزتين واحدة لبطل الفيلم محمد نجاتي، والأخرى للمخرج رضوان الكاشف، وحصلت شيريهان على جائزة أفضل ممثّلة.عُرِض الفيلم أوّل مرّة في 23 يونيو من عام 1999، لكنه لم ينل نجاحًا جماهيريًا يذكر.
