في خطوة متوقعة، ولكنها تحمل عواقب أكبر مما يدرك، تصاعد دونالد ترامب الحرب التجارية العالمية من خلال فرض تعريفات جمركية صارمة، بهدف إخضاع الاقتصاد العالمي لهيمنة واشنطن.
ولكن السؤال الأهم هو: هل يمكن لأمريكا تحمل تكلفة هذه الرهان، أم أنها تعرض نفسها للعزلة في عالم لن ينتظرها؟
خسائر مضمونة أم مكاسب زائفة؟
تاريخياً، لم تؤدِ السياسات الحمائية إلا إلى التدهور الاقتصادي وارتفاع التضخم، وهو ما حذر منه الاقتصاديون منذ أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات، عندما تسببت “قانون التعريفات الجمركية سموث-هالي” في انكماش اقتصادي عالمي بدلاً من الانتعاش.
اليوم، يتبع ترامب نفس المسار، معتقداً أن فرض التعريفات سيجبر الصين وأوروبا على الاستسلام، متجاهلاً الحقيقة أن العالم أصبح الآن أكثر تكاملاً اقتصاديًا من أي وقت مضى.
من يدفع الثمن؟
عندما يقرر ترامب زيادة التعريفات على الواردات الصينية أو الأوروبية، أول من سيدفع الثمن هم المواطنون الأمريكيون العاديون. هذه الزيادات تترجم إلى أسعار أعلى، مما يؤدي إلى تقليل القدرة الشرائية، وارتفاع التضخم، وانخفاض النمو الاقتصادي.
أكدت دراسة من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أن الحرب التجارية التي بدأها ترامب خلال ولايته الأولى كلفت الاقتصاد الأمريكي أكثر من 300,000 وظيفة، بالإضافة إلى مليارات الدولارات من الخسائر في الإنتاج الصناعي والزراعي.
المعارضة العالمية المتزايدة
ومع ذلك، تطور الوضع بشكل كبير وتجاوز النزاع بين الولايات المتحدة والصين. فقد أعلنت فرنسا حربًا تجارية على الولايات المتحدة، بينما تتبع الصين وكندا ومعظم دول أوروبا والهند واليابان وكوريا الجنوبية نفس المسار. بدأ العديد من هذه الدول في التوحد ضد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
يعكس هذا التحالف المتزايد للدول استياء المجتمع الدولي من سياسات ترامب العدوانية في فرض التعريفات الجمركية.
وقد أصبح الوضع أكثر تعقيدًا بعد تهديد وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين لأي دولة ترد على زيادة التعريفات الجمركية الأمريكية، مما يزيد من تصعيد التوترات.
هذه السياسة القاسية قد تؤدي إلى جبهة موحدة حيث يتحدى بقية العالم التدابير الحمائية التي تتبناها أمريكا.
هل سيخضع العالم؟
يبدو أن ترامب يراهن على قدرة الولايات المتحدة على إخضاع الصين وقوى اقتصادية أخرى من خلال استراتيجيته “الضغط الأقصى”، لكن المشهد العالمي مختلف تمامًا عما يفترضه البيت الأبيض.
فبدلاً من الاستسلام، اعتمدت الصين استراتيجيات جديدة لتعزيز أسواقها المحلية وتوسيع التجارة مع آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
في هذه الأثناء، بدأت الاتحاد الأوروبي في تعزيز تحالفاتها التجارية بعيدًا عن واشنطن، مما يضعف النفوذ الأمريكي بدلاً من تعزيزه.
الصين.. الانتقام بالمثل
لطالما كانت الصين لاعبًا قويًا في المعادلة الاقتصادية الدولية، وهي تعلم أن الاستسلام لواشنطن يعني انهيار مشروعها الاقتصادي العالمي، وخاصة مبادرة الحزام والطريق.
لذلك، لم تتردد بكين في الرد بالمثل من خلال فرض تعريفات مضادة وزيادة الاعتماد على شركائها الآسيويين، مما يحرم الولايات المتحدة من سوق ضخم كانت تعتمد عليه لفترة طويلة.
الولايات المتحدة.. غارقة في الحروب الإقليمية
بالإضافة إلى الحرب التجارية، تواصل الولايات المتحدة استنزاف مواردها في صراعات إقليمية لا تنتهي، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وتوترات في بحر الصين الجنوبي.
هذه الحروب التي استنزفت الاقتصاد الأمريكي وأثقلت ميزانيتها الوطنية تجعل من الصعب على واشنطن الاستمرار في ممارسة الضغط الاقتصادي على العالم دون دفع ثمن سياسي وعسكري كبير.
الدعم الأعمى للمشروع الصهيوني
علاوة على ذلك، يعجل دعم أمريكا الأعمى للمشروع الصهيوني في الشرق الأوسط بسقوط نفوذها في المنطقة. فبدلاً من أن تلعب دور الوسيط، تبنت الولايات المتحدة سياسة منحازة تمامًا نحو إسرائيل، مما دفع العديد من الدول العربية والإسلامية إلى البحث عن شراكات استراتيجية بديلة، سواء بتقوية العلاقات مع الصين وروسيا أو تشكيل تحالفات إقليمية جديدة لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
النتيجة الحتمية.. أمريكا تتراجع والعالم يتقدم
يبدو أن السياسة التي يتبعها ترامب هي محاولة للعودة إلى العزلة الاقتصادية التي لم تعد ممكنة في عصر العولمة. فالدول الكبرى لم تعد تقبل أوامر واشنطن كما كانت تفعل في العقود الماضية؛ بل بدأت في البحث عن بناء تحالفات جديدة بعيدًا عن الضغط الأمريكي.
بمعنى آخر، إذا كانت واشنطن تأمل في إجبار العالم على الركوع، فإن الحقيقة هي أن العالم قد بدأ بالفعل في البحث عن بدائل. مع كل تصعيد أمريكي، تتسارع وتيرة التحولات نحو اقتصاد عالمي أكثر استقلالية، خالي من الهيمنة الأمريكية.
إما أن نتكاتف جميعًا.. أو نشنق جميعًا
في النهاية، إن السياسة الحمائية التي يتبعها ترامب ليست مجرد مقامرة بمستقبل أمريكا الاقتصادي، بل هي تهديد مباشر لنظام التجارة العالمي. إذا استمرت واشنطن في إشعال الحروب التجارية، فلن تكون النتيجة انتصارًا أمريكيًا بل نظامًا اقتصاديًا جديدًا يحل فيه الهيمنة الأمريكية محل التعددية الحقيقية.
وهنا تكمن أهم العبر: “إما أن نتكاتف جميعًا، أو نشنق جميعًا.” العالم لم يعد مستعدًا لقبول تهديدات البيت الأبيض، وإذا فشل ترامب في استيعاب هذه الحقيقة، فسوف يكتشف قريبًا أن الحرب التجارية التي أشعلها ستنعكس عليه، قبل أن تضر أعداءه.