في لحظةٍ مفجعةٍ من عمر الحصار، تتساقط الأقنعة. صاروخ يحمل توقيع “صُنع في تركيا – 2024” يهوي على غزة، لا ليخترق جدران البيوت، بل ليخترق ذاكرة الشعوب التي خُدعت بشعاراتٍ زائفةٍ وتضامنٍ صوتي. تركيا، التي طالما قدّمت نفسها في ثوب المناصر لغزة، تُفاجئ العالم بسلاحٍ يُستخدم في قصف الأبرياء، لتتجلّى مفارقة دامية: من يدّعي الصراخ باسم القدس، يبيع رصاصه للغاصب.
رجب طيب أردوغان، الذي ارتدى عباءة الإسلام السياسي، نجح طويلاً في ترويج نفسه كقائدٍ مسلمٍ يدافع عن قضايا الأمة. وقف على منصة دافوس وصاح في وجه بيريز: “أنتم تقتلون الأطفال”، فصفّق له العالم الإسلامي، ونُسجت حوله أساطير البطولة. لكن التاريخ لا يُكتب بالخطابات، بل بالفعل، والحقائق الآن أشد فتكًا من الصواريخ.
شراكة اقتصادية لا تعرف القضية
تركيا اليوم هي ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل في المنطقة بعد أمريكا. وبحسب بيانات معهد الإحصاء التركي، تجاوز حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب 8 مليارات دولار في عام 2023، في حين كانت غزة تُقصف على مرأى ومسمع العالم.
وهنا يظهر السؤال: كيف يمكن لزعيمٍ يدّعي مناصرة فلسطين أن يُبقي سفاراته مفتوحة، واتفاقياته سارية، وخطوط الطيران نشطة، بينما تسيل دماء الأبرياء؟ الإجابة تكمن في التناقض التركي ذاته، بين الخطاب الشعبوي والحساب البنكي.
دور تركيا في تخريب الجغرافيا العربية
لم يكن موقف أنقرة من سوريا وليبيا والسودان عارضًا أو عشوائيًا. فتركيا، تحت مظلة “العمق الاستراتيجي”، سعت إلى إعادة هندسة المنطقة بما يخدم مصالحها التوسعية. في سوريا، لم تُطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، لكنها جلبت آلاف المرتزقة، ودعمت فصائل أضعفت الجيش الوطني السوري، وساهمت في تدمير بنية الدولة. وفي ليبيا، دعمت حكومة الوفاق بأسلحةٍ وطائراتٍ مسيّرة، لتصب الزيت على نيران الحرب الأهلية. أما في السودان، فقد كانت أنقرة من أوائل من وطّدوا العلاقات مع نظام البشير، ثم حاولت التمدد في البحر الأحمر عبر “جزيرة سواكن”.
كل ذلك لم يكن صدفة، بل كان استراتيجية محسوبة تسير على وترٍ دقيق: تصدير خطابٍ إسلامي أمام الجماهير، ونسج تحالفات براغماتية في السر مع كل من يخدم مصالحها، حتى لو كان الاحتلال نفسه.
أردوغان.. الحليف الأوفى لتل أبيب؟
ربما الصدمة الأشد ليست في السلاح الذي كُتب عليه “صُنع في تركيا”، بل في سلسلة اللقاءات التي جمعت أردوغان بكل رؤساء الاحتلال الإسرائيلي، من شمعون بيريز إلى بنيامين نتنياهو. ففي عام 2022، استقبل أردوغان الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ استقبال الزعماء، ورفع العلم الإسرائيلي على قصر الرئاسة في أنقرة.
بل وذهب وزير الخارجية التركي آنذاك، مولود تشاووش أوغلو، في تصريحٍ صريح عام 2023، ليؤكد أن “تركيا لن تدخل في أي مواجهة مع إسرائيل”. تصريح لم يُكذب، بل عُزّز بأرقام الصادرات وصفقات التكنولوجيا والأسلحة.
غزة الكاشفة.. سقوط الأقنعة
غزة، كما كانت دومًا، ليست مجرد ساحة اشتباك، بل ساحة اختبار للضمائر. وفي كل مرة، تُسقط الأقنعة. فحين تتكلم الدماء، تسكت الخطابات. وحين يظهر صاروخ كُتب عليه “صُنع في تركيا”، لا تعود لعبارات “القدس خط أحمر” أي معنى.
لقد كشفت غزة الحقيقة التي حاول الكثيرون طمسها، بأن أردوغان ليس نصيرًا لفلسطين، بل رجل المرحلة الرمادية، يتاجر بالدم الفلسطيني حينًا، ويُصدّر السلاح لقاتله حينًا آخر.
مَن يحاسب الخداع؟
المعركة اليوم لم تعد فقط ضد العدو الظاهر، بل ضد من يختبئ خلف شعارات النصر وهو يبيع خنجر الخيانة. والأمة، التي عانت طويلاً من الطعنات في الظهر، باتت اليوم أكثر وعيًا بمن يقف معها، ومن يتاجر بها.
ربما آن أوان إعادة قراءة المشهد التركي بعينٍ لا يخدعها البريق، وبعقلٍ يميّز بين النصير والسمسار. فالقضية لا تحتمل مزيدًا من الخداع، والتاريخ لا يرحم من باع القيم في سوق المصالح.