هل تستمر الشعوب العربية في الصمت؟
لم يعد ما يحدث في فلسطين مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل أصبح نموذجًا جديدًا لإدارة العالم بالقوة والابتزاز. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض ليحكم بأسلوب أقرب إلى إدارة العصابات منه إلى قيادة دولة عظمى، أطلق تهديدًا مباشرًا: إذا لم تُطلق حماس جميع الأسرى الإسرائيليين بحلول السبت الساعة 12 ظهرًا، فسيفتح “أبواب الجحيم” على غزة.
لكن الحقيقة الأعمق هي أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن سوى فخّ مدبّر، الهدف منه إخراج الأسرى الإسرائيليين، ثم استكمال المخطط الصهيوني بإبادة ما تبقى من غزة، تمهيدًا للاستيلاء الكامل عليها. وما يجري اليوم في فلسطين ليس سوى بداية لسلسلة تهديدات تمتد إلى مصر وسوريا والأردن، وربما غدًا إلى الخليج والسعودية، تحت نفس المعادلة التي فرضتها واشنطن وتل أبيب على العالم: “إما أن تتركوا الأرض للتوسع الصهيوني، أو سنطلق عليكم الجحيم”، “إما أن تشاركونا ثرواتكم لأننا نحميكم، أو سنقلب عليكم الطاولة”.
عربدة بلا رادع… وخنوع بلا مقاومة
هذا النهج الإجرامي لم يعد مجرد سياسة خارجية عدوانية، بل تحول إلى أسلوب ممنهج لإدارة العالم. من أوكرانيا إلى فلسطين، ومن الخليج إلى آسيا، تفرض واشنطن شروطها بالقوة، وتنتهك الاتفاقيات والمعاهدات متى شاءت، في انسجام تام مع الحليف الصهيوني الذي لم يحترم أي اتفاق منذ نشأته، ولم يواجه أي ردع دولي حقيقي. الإدارة الأمريكية لم تعد تعتمد على الدبلوماسية أو القانون الدولي، بل على البلطجة السياسية والعسكرية، حيث تُدار العلاقات الدولية وفق منطق العصابات.
لكن الأخطر من ذلك كله هو التخاذل العربي. الصمت المطبق أمام هذه الجرائم هو مشاركة ضمنية فيها. لا يمكن للعالم العربي، شعوبًا وحكومات، أن يستمر في هذا التردد أمام ممارسات تهدد ليس فقط الفلسطينيين، بل مستقبل المنطقة بأسرها. اليوم، يتم التلويح بـ”إطلاق الجحيم” على غزة، وغدًا قد يصبح هذا الأسلوب هو القاعدة للتعامل مع أي دولة عربية ترفض الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية.
الرهان الخاطئ.. والدروس المنسية
من يراهن على الدعم الأمريكي عليه أن يتذكر كيف خرجت واشنطن من أفغانستان، تاركةً عملاءها لمصيرهم المحتوم، بعد أن تخلت عنهم في لحظة واحدة. الأنظمة العربية ليست سوى أدوات مؤقتة في الحسابات الأمريكية، لكنها تغفل الحقيقة الأهم: الشعوب وحدها هي القوة الحقيقية والحماية الفعلية للأرض. الشعوب هي من تسقط المحتلين، وهي من تفشل المخططات، وهي من تعيد التوازن أمام عربدة واشنطن وتل أبيب.
إذا استمر الخنوع العربي أمام هذا الابتزاز، فإن القادم سيكون أسوأ. القضية لم تعد فلسطينية فقط، بل أصبحت اختبارًا لمستقبل المنطقة بأكملها. وما يحدث اليوم في غزة قد يكون غدًا في عواصم عربية أخرى، حينها لن يكون هناك وقت للندم.
لقد حذرتُ سابقًا من هذا النهج الإجرامي وغير المنضبط في إدارة دولة بحجم الولايات المتحدة. لا يمكن للعالم أن يقبل بقيادة تعتمد على البلطجة السياسية والعسكرية، بدلًا من القانون والدبلوماسية. الإدارة الأمريكية الحالية تتصرف وكأنها عصابة خارجة عن القانون، تفرض شروطها بالقوة، وتُلغي الاتفاقيات والمعاهدات متى أرادت، تمامًا كما يفعل الكيان الصهيوني منذ عقود.
هل هذا هو مستقبل إدارة العالم؟
إذا لم يكن هناك رد عربي واضح، وإذا استمر العالم في خنوعه المطلق للهيمنة الأمريكية، فإننا أمام مستقبل قاتم تُدار فيه العلاقات الدولية بأسلوب العصابات، حيث لا قيمة للقانون، ولا احترام للمواثيق، ولا مكان للضعفاء إلا تحت وطأة التهديد والابتزاز.
إن ما يحدث اليوم هو لحظة فاصلة: إما أن تتحرك الشعوب العربية وتضغط على أنظمتها لاتخاذ مواقف حقيقية، أو أن تستمر في الصمت حتى تجد نفسها أمام تهديدات مماثلة. القضية ليست فقط فلسطينية، بل هي اختبار لمستقبل المنطقة، ولمدى قدرتها على رفض سياسة الإملاءات والتهديدات التي تسعى واشنطن وتل أبيب إلى فرضها على العالم بأسره.
خطورة الصين أو أي قوة عظمى تظهر بعد تفكيك الولايات المتحدة الأمريكية
لكن هناك نقطة أخرى يجب عدم إغفالها، وهي أن العالم لن يبقى تحت الهيمنة الأمريكية للأبد. الولايات المتحدة، رغم قوتها العسكرية والاقتصادية، تعيش حالة من التآكل الداخلي، وقد يكون تفككها مسألة وقت فقط. والسؤال هنا: ماذا بعد انهيار أمريكا؟
الصين تبرز كقوة عظمى صاعدة، ومعها قوى أخرى مثل روسيا والهند. لكن هل سيكون العالم أكثر استقرارًا إذا اختفت الولايات المتحدة من المشهد؟ الحقيقة أن انهيار واشنطن دون وجود منظومة أمنية عربية مشتركة سيجعل العالم العربي أكثر عرضة للأطماع الخارجية، سواء من قوى غربية جديدة أو حتى من قوى إقليمية لديها طموحات توسعية.
لهذا، فإن العرب إذا لم يكن لديهم سلاح رادع تحت قيادة دفاع مشترك مثل الناتو، فسوف نترحم على أمريكا والغرب عندما نجد أنفسنا بلا أي قوة تحمينا في عالم متغير، حيث لا مكان للضعفاء.