منذ عودته إلى المشهد السياسي، عاد دونالد ترامب ليضع بصمته على مستقبل الدولة الأمريكية. بخطوات غير مسبوقة، يسعى إلى إعادة تشكيل مؤسسات الدولة الفيدرالية، مستهدفًا وكالات أمنية واستخباراتية تُعتبر حجر الأساس في الهيمنة الأمريكية عالميًا.
التحركات التي تشمل وكالة المخابرات المركزية، مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة التنمية الدولية، ليست مجرد إصلاحات إدارية، بل تبدو وكأنها محاولة لتفكيك جهاز الدولة العميقة الذي يرى ترامب أنه يقف في طريق مشروعه السياسي.
الوكالات الأمنية والاستخباراتية كأعمدة للنفوذ الأمريكي
لطالما شكلت وكالة المخابرات المركزية الذراع الأقوى للولايات المتحدة في فرض سيطرتها على المسرح الدولي، من خلال عملياتها السرية وجمع المعلومات الاستخباراتية التي تحمي الأمن القومي الأمريكي.
أما مكتب التحقيقات الفيدرالي، فلطالما كان الحارس الداخلي الذي يراقب التهديدات المحلية، سواء أكانت إرهابًا داخليًا أم تدخلات خارجية. بينما تلعب وكالة التنمية الدولية دورًا مختلفًا لكنه لا يقل أهمية، إذ تعمل كأداة دبلوماسية تعزز النفوذ الأمريكي عبر مشاريع المساعدات الإنسانية والتنموية.
التلويح بتقليص نفوذ هذه الوكالات أو حتى تفكيك بعضها يثير أسئلة جوهرية حول ما إذا كانت واشنطن مستعدة للتخلي عن أدوات سيطرتها، وما الذي سيحدث إذا ما تراجعت قدرة الولايات المتحدة على فرض أجندتها عالميًا.
ترامب والدولة العميقة: صراع أم تفكيك؟
ليس سرًا أن ترامب يعتبر أجهزة الدولة الأمنية خصومًا له. خلال ولايته الأولى، دخل في معارك مفتوحة مع المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، متهمًا إياهما بالعمل ضده في محاولة لعزله وإسقاط شرعيته السياسية. ومع استعداده للعودة إلى السلطة، يبدو أنه عازم على تصفية الحسابات مع ما يسميه “الدولة العميقة”، عبر إعادة هيكلة المؤسسات أو حتى تفكيك بعضها بالكامل.
بعيدًا عن الصدام الشخصي، يُروج أنصاره لفكرة أن هذه الأجهزة أصبحت عبئًا بيروقراطيًا، تعمل لخدمة نخبة سياسية واقتصادية بعيدة عن مصلحة المواطن العادي. في المقابل، يرى معارضوه أن تفكيك هذه المؤسسات لن يؤدي سوى إلى إضعاف الولايات المتحدة، وتركها مكشوفة أمام خصومها.
المخاوف من فقدان الهيمنة الأمريكية
أي تراجع في دور هذه المؤسسات سيترك فراغًا سياسيًا وأمنيًا من شأنه أن يغير موازين القوى الدولية. الصين وروسيا، وهما القوتان الأكثر استعدادًا لملء هذا الفراغ، قد تعززان نفوذهما في مناطق كانت واشنطن تسيطر عليها لعقود. قد يجد الحلفاء التقليديون أنفسهم مضطرين للبحث عن بدائل، سواء عبر تعزيز استقلالهم أو إقامة تحالفات جديدة مع قوى صاعدة.
على المستوى الداخلي، قد يؤدي إضعاف مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة وزيادة المخاطر الأمنية. أما في حال تقلص دور المخابرات المركزية، فسيكون من الصعب على الولايات المتحدة حماية مصالحها في الخارج، أو حتى مواجهة التهديدات الإرهابية قبل أن تصل إلى أراضيها.
صمت الكونغرس والانقسام السياسي
المفارقة أن هذه التحركات لا تواجه مقاومة واسعة كما كان متوقعًا. السبب الرئيسي هو الانقسام الحاد الذي يعيشه المجتمع الأمريكي، حيث نجح ترامب في إقناع شريحة كبيرة من الأمريكيين بأن الدولة العميقة تعمل ضدهم، ما جعلهم أكثر تقبلًا لفكرة تفكيكها. إضافة إلى ذلك، فإن سيطرته على الحزب الجمهوري تعني أن هناك كتلة سياسية داعمة له داخل الكونغرس، قد تمنع أي محاولات جادة لإيقافه.
في المقابل، يعاني الحزب الديمقراطي من انقسامات داخلية بين تياراته المختلفة، ما يجعله أقل قدرة على تقديم بديل قوي لمواجهة المشروع الترامبي. ومع غياب إجماع سياسي على رفض هذه التحركات، تظل مؤسسات الدولة في وضع هش، ما يتيح لترامب المضي قدمًا في خطته دون مقاومة كبيرة.
إلى أين يتجه المشهد الأمريكي؟
إذا نجح ترامب في تنفيذ رؤيته، فإن شكل الدولة الأمريكية قد يتغير بشكل جذري، ما قد يؤدي إلى فقدانها أدوات قوتها التقليدية، ويفتح الباب أمام مرحلة من التراجع في النفوذ العالمي. في المقابل، قد تنشأ مقاومة داخلية من المؤسسة الأمنية والعسكرية نفسها، ما قد يعرقل تنفيذ هذه الخطط أو يحدّ من آثارها.
لكن الاحتمال الأكثر خطورة يتمثل في أن يؤدي هذا الصراع إلى أزمة دستورية غير مسبوقة، تدفع البلاد إلى مرحلة من عدم الاستقرار السياسي قد تهدد وحدة الدولة الفيدرالية نفسها. الأكيد أن الولايات المتحدة تواجه لحظة مفصلية في تاريخها، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن تفكيك الدولة العميقة دون أن تتفكك أمريكا معها؟