حين أسس حسن البنا جماعة الإخوان عام 1928، لم تكن البلاد قد تحررت بعد من الوصاية البريطانية، وكانت الملكية أداة طيعة بيد المستعمر. ومع ذلك، لم تصطدم الجماعة بالنظام الملكي، بل نسجت معه علاقات مهادنة، بل وتحالفت أحيانًا. تلقّت الجماعة دعمًا ماليًا من القصر والإنجليز على حد سواء، بحسب ما أكده الباحث مارك كورتيس في كتابه “Secret Affairs: Britain’s Collusion with Radical Islam”، مشيرًا إلى أن الاستخبارات البريطانية نظرت للإخوان كـ”حائط صد ضد القومية واليسار”.
وكان واضحًا أن مشروع الجماعة لم يكن تحرريًا بل إصلاحيًا من داخل النظام، وهو ما جعلها أكثر اهتمامًا بالمؤسسات الدينية والاجتماعية من الانخراط في حركات الاستقلال الحقيقية.
عبد الناصر.. من العناق إلى المشنقة
عقب ثورة يوليو 1952، تحالف الضباط الأحرار مع الإخوان، وكان سيد قطب أحد منظّري المشروع الثوري في بداياته. لكن سرعان ما بدأت الخلافات تطفو، خاصة بعد محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية (1954)، والتي اتهمت فيها الجماعة مباشرة. وكانت هذه الحادثة لحظة فاصلة، كشفت عن طموح الجماعة في السيطرة على السلطة لا المشاركة فقط، وهو ما دفع عبد الناصر إلى سحقها تمامًا، بسلسلة من الاعتقالات والإعدامات، أبرزها إعدام سيد قطب عام 1966.
ورغم ذلك، استمرت محاولات الجماعة للتقارب مع النظام حتى من داخل السجون، وهو ما سجله المؤرخ الفرنسي جيل كيبل في “الجهاد: التوسع والانحدار”، حيث أشار إلى أن كثيرًا من رموز الجماعة كانوا مستعدين للتنازل مقابل الإفراج أو البقاء في الحيز الدعوي.
السادات.. الإخوان في مواجهة اليسار
بعد توليه الحكم، فتح أنور السادات السجون للإخوان وأعادهم للحياة السياسية، لا حبًا فيهم بل استخدامًا لهم ضد الناصريين واليساريين الذين كانوا يهددون شرعيته. وقد دعم السادات بشكل غير مباشر تمدد الجماعة في الجامعات والنقابات، لتكون ذراعًا موازنة لأعدائه الإيديولوجيين. ووفقًا للمفكر فهمي هويدي، وهو من داخل الجماعة، فإن “السادات سمح لهم بالتحرك مقابل أن يكفّوا عن معارضته”.
اقرأ أيضًا: عز الدين الهواري يكتب: اليهود يحكمون العالم.. ليس دولنا العربية فقط
لكن مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد وبدء الانفتاح، بدأت الجماعة تتململ، لكنها لم تدخل في صدام حقيقي، بل اكتفت بالمعارضة المحدودة، تحافظ على وجودها في الهامش دون مواجهة النظام مواجهةً مصيرية.
مبارك.. التعايش الرمادي
في عهد حسني مبارك، حافظت الجماعة على نمط “المعارضة الناعمة”، وكانت أقرب إلى جماعة ضغط دينية أكثر منها تنظيمًا ثوريًا. دخلت البرلمان في أكثر من دورة تحت راية “مستقلين”، ووصلت إلى أكبر كتلة معارضة في انتخابات 2005. إلا أن الجماعة لم تطرح بديلًا سياسيًا حقيقيًا، بل انغمست في صفقات انتخابية ونقابية، وعُرفت بعبارة لسان حالها: “نحن لسنا معارضة تسعى لإسقاط النظام، بل لإصلاحه من الداخل”.
وكان هذا المسار مدفوعًا برغبتها في الحفاظ على وجودها، دون الدخول في صدام مباشر. ويؤكد الباحث الأمريكي روبرت سبرينغبورغ في دراسته عن الإخوان أن الجماعة “أتقنت فن البقاء”، لكنها فشلت في طرح مشروع حكم متكامل.
25 يناير.. الفرصة التي تحولت إلى مؤامرة
عند اندلاع ثورة يناير 2011، تلكأ الإخوان في الانضمام إليها، ثم شاركوا على استحياء، وسرعان ما بدأوا في التفاوض مع عمر سليمان، رجل النظام القوي، في وقت كانت فيه دماء الشباب تسيل في الميدان. وبعد تنحي مبارك، قفزوا على الثورة، وسيطروا على البرلمان، ثم الرئاسة، وأصدروا الإعلان الدستوري الذي كشف نيتهم الهيمنة على مؤسسات الدولة، لا الشراكة.
وقد كتب وائل قنديل في “الشروق” (2012) أن “الإخوان لم يكونوا طرفًا في الثورة بقدر ما كانوا يخططون لقطف ثمارها”، وهو ما جعلهم يواجهون السقوط سريعًا، بعد تحالفهم مع السلفيين، وإقصائهم لقوى الثورة، بل وتواطئهم في أحيان كثيرة مع المجلس العسكري لضرب الحراك الشعبي.
ما بعد مصر.. سقوط متسلسل
بعد زوال حكم الإخوان في مصر، بدأت الجماعة تفقد توازنها في الإقليم. في تونس، حاولت النهضة إعادة تدوير نفسها، لكنها اضطرت للتنازل أمام ضغط شعبي. في المغرب، فشل “العدالة والتنمية” فشلًا ذريعًا بعد تجربة الحكم. وفي الأردن، تقلصت شعبية الجماعة إلى الحد الأدنى.
هذا السقوط المتسلسل لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة مسار طويل من الانتهازية السياسية، وغياب المشروع الوطني، والتمترس خلف شعارات دينية لا تترجم إلى برامج واقعية.
الجماعة التي خانت الثورة
إن مسيرة جماعة الإخوان المسلمين لم تكن يومًا مسيرة تضحية من أجل الشعب أو الدين، بل كانت دومًا تحركات براغماتية تُدار بمنطق المصلحة لا المبدأ. ولهذا لم يكتب لها الله أجر الإحسان، لأن النية لم تكن خالصة، وكانت النتيجة أن لفظتها الشعوب التي طالما ادعت تمثيلها.
البرلمان يُحل، الرئيس يُعزل، الجماعة تُحظر… وكأن التاريخ ينطق: هذه ليست جماعة ربانية بل تنظيم سياسي آثر المصلحة على المبدأ، فكانت نهايته خنوعًا وهوانًا.