في مشهد يقطر عهراً سياسيًا ويعكس انحدارًا أخلاقيًا بلا قاع، يخرج دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الحالي، ليعظ جنوب أفريقيا عن “العدالة” و”حقوق الإنسان”، ويتهمها بأنها تمارس الفصل العنصري وتنفذ “إبادة بيضاء” فقط لأنها قررت إعادة الأراضي إلى أصحابها الأصليين بعد عقود من الاحتلال الاستعماري الأبيض.
ليست هذه سخرية. هذا هو الشيطان يعظ. ترامب، الذي شرعن احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية، وبارك إعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، وأطلق يد الاحتلال لارتكاب أفظع المجازر في غزة، يبكي الآن على حفنة من المزارعين البيض الذين فقدوا أراضيًا اغتصبها أجدادهم في عصور الاستعمار.
وما يفاقم هذه المهزلة الأخلاقية، أن ترامب يغض الطرف تمامًا عن الدمار اليومي في الضفة الغربية: هدم منازل، وتوسع استيطاني غير قانوني، وسرقة أراضٍ، وقتل منهجي يمارسه جنود الاحتلال كأنه طقس ديني. إن القتل الصهيوني للفلسطينيين تحول إلى طقس يومي، إلى عبادة بالدم، إلى طقوس دموية تغرق فيها الصهيونية حتى أن الشيطان بجوارها يبدو ملاكًا رحيماً.
وما هذا إلا صورة من صور البغاء السياسي بأقذر أشكاله. إنه الجبروت حين لا يُحاسَب، والاستكبار حين يتحكم في رواية الأخلاق. المزارعون البيض ليسوا ضحايا، بل هم ورثة المستعمرين الذين نهبوا الأرض وسرقوا أرواح أهلها، مثلهم مثل الصهاينة الذين استولوا على فلسطين.
إن اتهام جنوب أفريقيا بارتكاب إبادة لمجرد أنها تسعى لتصحيح ظلم تاريخي هو قمة السخرية المسمومة. إنها نفس العقلية الأمريكية التي دمرت العراق وليبيا، بحجة “حقوق الإنسان” التي لا تُستخدم إلا كسيف ضد من يرفض الخضوع.
والأدهى أن هذه الحملة الأمريكية المسعورة ضد جنوب أفريقيا ليست عفوية، بل هدفها الأساسي هو إرهاب وابتزاز شعوب أفريقيا، وعلى رأسها جنوب أفريقيا، بسبب جرأتها التاريخية في رفع قضية ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية.
هذه ليست مسألة حقوق إنسان، بل انتقام سياسي ضد من تجرأ على كسر الصمت وفضح جرائم الاحتلال أمام العالم. إنها رسالة استعمارية مغطاة بعباءة إنسانية.
النفاق الأمريكي لا حدود له. يرى ترامب “اضطهادًا” في استرجاع الأراضي المنهوبة، لكنه لا يرى أي مشكلة في تهجير سكان حي الشيخ جراح، أو قصف أطفال غزة، أو تحويل الشرق الأوسط إلى مقبرة مفتوحة. هذه هي عقيدة الإمبراطورية: من يملك السلاح، يملك تعريف الجريمة.
لقاء ترامب مع رئيس جنوب أفريقيا لم يكن دبلوماسية، بل فضيحة أخلاقية. إعلان صريح بأن أمريكا في عهد ترامب لم تعد حتى تدعي أنها تؤمن بالعدالة. خطاب حقوق الإنسان لم يعد إلا سيفاً بيد الجلاد، يُشهر في وجه الضعفاء فقط.
جنوب أفريقيا لم تعد مستعمرة
منذ سقوط نظام الفصل العنصري، تحاول القوى الغربية الحفاظ على نفوذ البيض بطرق غير مباشرة: من خلال الضغط الاقتصادي، والدعاية المضللة، وحملات التشويه العالمي. واليوم، يُصوَّر السعي العادل لإعادة الأرض إلى أصحابها على أنه “عنصرية ضد البيض”، ويُعاد تلميع الاستعمار الأبيض بلغة “العدالة” و”الحرية”.
ترامب… حين يتقمص الشيطان دور النبي
رجل الكذب، والتنمر، وإثارة الفتن، يريد الآن أن يتحدث عن الأخلاق؟ هذه ليست فقط قمة النفاق، بل حالة انفصام أخلاقي تام. ترامب لا يكتفي بتحريف الحقائق، بل يقلبها رأساً على عقب. إنه مرآة يرى فيها الاستعمار أبشع صوره، ويقول: كم أنا جميل!
ازدواجية المعايير: ديانة الغرب المقدسة
من دعم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بالأمس، إلى دعم إسرائيل اليوم بكل أنواع الأسلحة المحرمة، الرسالة الأمريكية واضحة: من يخدم مصالحنا هو الضحية، ومن يقاومنا هو الإرهابي. سواء كانت أمًا فلسطينية، أو فلاحًا أسودًا، أو عاملًا فقيرًا في جوهانسبرغ، فلا عدالة إلا لمن يطيع الإمبراطورية.
الأقنعة سقطت
ترامب ليس استثناءً، بل هو التجلي الحقيقي للوجه القبيح للهيمنة الغربية. القيم الأمريكية لم تكن يومًا عالمية، بل كانت دومًا مشروطة ومزيفة. وحين يرتدي الشيطان عباءة الواعظ، يجب أن نفضحه لا أن نستمع له.
العالم لا يحتاج مواعظ من قتلة. بل يحتاج عدالة حقيقية تكسر هيمنة القوة وتفضح النفاق.