في ذلك المشهد الموجع، لم يكن مجرد دبلوماسي يجهش بالبكاء داخل قاعة مجلس الأمن… بل كانت فلسطين، كانت القدس، كانت غزة، كان التاريخ بأسره، يصرخ من بين دموع رجل وجد نفسه وحيدًا في مواجهة العالم، بينما تجلس “الدول الإسلامية” مترفة في مقاعد المتفرجين. لا عزاء في مجلس فقد شرفه، ولا رجاء في أمة تعودت الهوان حتى صار لها جلد من صفيح.
بكاء ممثل فلسطين لم يكن مجرد لحظة انفعال، بل كان بكاءً على أطفال غزة، على أجسادهم الممزقة، على ملامحهم التي لا تُعرف تحت الركام، على الطفولة التي تُذبح بصمت أمام أعين عالم بلا قلب ولا ضمير.
غزة تصمد وحدها!
غزة تصمد أمام قوة الصهيونية كلها. إسرائيل، ألمانيا، بريطانيا، وأمريكا، تخيلوا! مقاومة بدون غطاء جوي، بلا حلفاء، بلا عمق استراتيجي، تخسر منذ 17 عامًا كل شيء… ولا تنهار. تخلى العرب كلهم عنهم، بل الأسوأ: كانوا يدعمون الكيان الصهيوني بكل الطرق حتى يقضوا على المقاومة. أعلنوها صراحة.
في المقابل، لم تصمد 6 جيوش عربية أمام الكيان الصهيوني وحده لمدة 6 أيام! اجتاحت إسرائيل ثلاث دول عربية واحتلت أراضيها.
وفي غزة، الكيان الصهيوني و حلفائه لهم ٦٠٠ يومًا تقريبًا وهم يبحثون عن “انتصار”!
أي عار هذا الذي بلغناه حتى نبكي أمام حفنة من الدول التي شاركت أو تواطأت أو صمتت عن ذبح الأطفال، ودفن النساء تحت الأنقاض، وقصف المستشفيات، واقتلاع الأشجار، ونسف البيوت على رؤوس ساكنيها؟ أي زمن نعيش فيه حين يُقتل الحق في وضح النهار، وتدافع عنه الدموع وحدها، لا الجيوش ولا البنادق ولا حتى المواقف السياسية الحازمة؟
52 دولة إسلامية… بلا أثر!
أين هي باكستان النووية؟ أين تركيا التي تبكي على القدس في المحافل وتبني جسور التطبيع في الخفاء؟ أين إيران التي تصرخ بـ”الموت لإسرائيل” وتفاوض في ذات الوقت مع الغرب من فوق الطاولة وتحتها؟ أين ماليزيا المسلمة التي لم تحرك ساكنًا؟ بل أين نحن؟ نحن الذين ملأنا الأرض خطبًا ووعودًا وانفعلنا على الشاشات ثم نمنا على وسائد الذل في الليل.
أي عذر بقي لنا؟ هل بقي لنا عذر أصلاً؟ أمة محمد التي كانت بالأمس تهز العالم بقيادة صلاح الدين ومحمد الفاتح، صارت اليوم تهتز خوفًا من إدانات الغرب، وتخشى حتى مقاطعة شركة بسكويت أو رفض تأشيرة دخول. أمة استمرأت العيش تحت أقدام المحتل — سواء كان المحتل جنديًا أجنبيًا أو نظامًا وكيلاً أو نخبة خانعة.
الكيان الصهيوني لا يتغير… لكننا نحن من تغيّرنا
إسرائيل لم تكذب يومًا بشأن نواياها: تقتل، تحتل، تهدم، تنكل، وتفعل ذلك علنًا أمام الكاميرات، وهي واثقة أن الرد سيكون “بيان قلق”، أو مؤتمر صحفي لا يتجاوز دقيقتين. إسرائيل لم تتوقف، لأننا نحن من توقفنا عن أن نكون شيئًا. رضينا بالعبودية الفكرية والسياسية، وصرنا نسعى إلى التطبيع كما يسعى العبيد إلى رضا السيد.
مجلس الأمن؟ لا أمن فيه!
كان يجب أن يسمّى مجلس الخنوع، مجلس الإملاء الغربي. ذلك المكان الذي يُحاكم فيه المظلوم، وتُكافأ فيه يد القاتل، ويُمنح المحتل حق الدفاع عن النفس، بينما يُنزع من الشعب الأعزل حتى حق الحياة. هناك، رأينا العالم الحقيقي: بلا أقنعة، بلا مبادئ، بلا إنسانية.
ما بعد البكاء… هل تبقى لنا شيء؟
نعم، تبقى لنا الغضب… لكنه وحده لا يكفي. الغضب يجب أن يُترجم إلى مشروع. مشروع مقاومة، مشروع نهضة، مشروع كرامة. لا بد من خلق جبهة شعبية أممية، تقودها الشعوب لا الحكومات، تعيد تعريف الكفاح الفلسطيني لا كقضية حدود، بل كقضية وجود، كحرب بين الحرية والاستعمار، بين الشرف والعمالة.
لقد علمتنا غزة – تلك البقعة الصغيرة – أن الشرف لا يُقاس بالحجم، وأن الكرامة لا تحتاج إلى جيوش جرّارة، بل إلى إرادة لا تعرف الانكسار. فمتى تتعلم الأمة درسها؟