في ظل توجه الحكومة المصرية الحثيث نحو توسيع مشاركة القطاع الخاص في إدارة أصول الدولة، تصاعد جدل واسع بشأن مصير أملاك هيئة الأوقاف المصرية، والتي تُعد – شرعاً وتاريخاً – وقفاً غير قابل للبيع أو التصرف إلا في حدود ضيقة تلتزم بشروط الواقفين. فهل نحن أمام خطوة اقتصادية هدفها تعظيم العائدات؟ أم أمام موجة تفريط جديدة تطال مقدسات اقتصادية واجتماعية كان يفترض أن تبقى في مأمن من “عجلة البيع المنفلتة”؟
لوقف في الإسلام مال الله لا يُباع
أصل الوقف في الفقه الإسلامي قائم على “حبس الأصل وتسبيل المنفعة”، بمعنى أنه لا يجوز بيع الأصل الموقوف، بل يخصص ريعه لأغراض حددها الواقف، مثل: الفقراء، التعليم، العلاج، أو خدمة المساجد. وقد أجمع جمهور الفقهاء على أن الوقف لا يُباع ولا يُورث، ولا يُحول إلى ملكية خاصة، باعتباره مالاً لله تعالى.
وهيئة الأوقاف من إدارة الوقف إلى المشاركة الاستثمارية
في مايو 2025، أصدر رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي تعليمات مباشرة بحصر شامل ومميكن لأصول هيئة الأوقاف تمهيداً لـ”تعظيم الاستفادة منها عبر الشراكة مع القطاع الخاص” – حسب التصريح الرسمى
وأكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الأوقاف أن الهيئة “ناظر للوقف وليست مالكًا”، مضيفًا أن ما يجري هو تطوير في الإدارة وليس بيعًا
القانون والدستور هل يجيزان البيع؟
ينظم قانون هيئة الأوقاف المصرية رقم 209 لسنة 2020 كيفية إدارة واستثمار أموال الوقف. ويجيز القانون في حالات ضيقة التصرف في بعض العقارات، مثل بيع الحصص الخيرية التي تقل عن 50%، أو الاستبدال بالممارسة أو المزاد، بشرط الحفاظ على عائد الوقف.
لكن فقهاء قانون دستوري ومراقبون يرون أن هذا التوسع في البيع أو الشراكة، حتى وإن غُلّف بغلاف “الاستثمار”، يُعد تجاوزًا خطيرًا للغرض الأصلي للوقف، وربما يحمل شبهة عدم الدستورية لتعارضه مع المادة (90) من الدستور المصري التي تنص على التزام الدولة برعاية الوقف وحمايته.
الوقائع التي تثير الريبة.. نزاعات ومحاكم واسترداد
ليست المخاوف افتراضية، بل تؤكدها عدة قضايا مرفوعة من عائلات مصرية ضد هيئة الأوقاف لاستعادة أراضٍ وعقارات أوقفتها عائلاتهم ثم استولت عليها الدولة بالتأميم. وفي بعض الحالات، حكمت المحاكم لصالح العائلات، لكن الهيئة امتنعت عن إبراز الحجج أو تمادت في الطعن.
مثلًا، في قضية شهيرة بمحكمة القضاء الإداري عام 2023، ألزمت المحكمة الهيئة برد عقار لعائلة من الإسكندرية باعتباره وقفًا ذريًا خاصًا، رفضت الهيئة إظهار مستنداته الأصلية.
خصخصة الوقف اليوم… والتأمينات غدًا؟
إذا كانت أموال الوقف، التي هي بالأساس أموال فقراء ومحتاجين وأيتام وطلاب علم، تُطرح الآن في سوق الاستثمار والربح – فمن يضمن ألا تلحق بها قريبًا أموال التأمينات والمعاشات، كما ألمحت بعض التصريحات الوزارية مؤخراً عن “تحويل منظومة المعاشات إلى إدارة استثمارية ذات عائد مرتفع”؟
أين هي وقفة العقلاء؟
في ظل هذا التسارع، يبقى السؤال: أين هم الأصوات العاقلة من داخل الدولة أو المجتمع المدني أو الأزهر الشريف، الذين يطالبون بـ”فرملة” هذه العجلة المنفلتة؟ هل يجوز التضحية بأوقاف أجيال كاملة بحجة الاستثمار؟ وهل تحوّلت الدولة من راعٍ للأمانة إلى مضارب باسم التنمية؟
الوقف ليس للبيع
إن حماية أموال الوقف لا ينبغي أن تكون موضع تفاوض أو حسابات سياسية واقتصادية. فبيع الوقف أو خصخصته لا يُعد مخالفة للدستور وحسب، بل خيانة لمقصد شرعي أصيل. وإن تعظيم عائدات الوقف لا يعني تسليعه، بل تطويره في إطار احترام نية الواقف والضوابط الفقهية والدستورية.
إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، فهل من سلطان رشيد يمنع بيع ما لا يُباع؟