في ظل الحديث المتكرر عن دولة القانون والمواطنة، يتجدد النقاش في كل عام حول ما إذا كان من حق المسيحيين المطالبة باعتبار عيد القيامة المجيد—أهم أعيادهم الدينية—إجازة رسمية مدفوعة الأجر على مستوى الجمهورية.
وهو تساؤل مشروع تمامًا في دولة تُقرّ في نصوصها الدستورية بالمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو العقيدة، وتؤكد على حرية ممارسة الشعائر الدينية، وتتبنّى مبدأ المواطنة الكاملة كأساس للعلاقة بين الفرد والدولة.
الإجازات الرسمية: بين الدولة والمجتمع
الدولة المصرية تعلن مجموعة من الإجازات الرسمية التي تتصل بالأعياد الدينية، في مقدمتها الأعياد الإسلامية (عيدي الفطر والأضحى، المولد النبوي، ليلة الإسراء والمعراج وغيرها)، وكذلك عيد الميلاد المجيد (7 يناير)، وعيد شم النسيم الذي يصادف توقيت عيد القيامة أحيانًا.
لكن الملفت للنظر أن عيد القيامة المجيد، وهو الركن الأساسي والأقدس في العقيدة المسيحية، لا يُدرج ضمن الإجازات الرسمية إلا داخل المؤسسات المسيحية وبعض المصالح التي يعمل بها أقباط، بينما لا يُعتبر يوم عطلة على مستوى الدولة ككل، بخلاف ما يحدث مع الأعياد الإسلامية.
الدستور المصري ومبدأ المواطنة
نص المادة (53) من الدستور المصري يُقرّ بوضوح:
“المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل…”
وفي المادة (64):
“حرية الاعتقاد مطلقة. وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية، وإقامة دور العبادة…”
هذان النصّان، إلى جانب مواد أخرى، تؤسسان لقاعدة دستورية تفرض على الدولة ضمان المساواة بين المواطنين في الحقوق الدينية والشعائرية، بما يشمل الأعياد كامتداد طبيعي لحرية الدين والعقيدة.
هل تبرر العقيدة الإسلامية عدم الإقرار بعيد القيامة؟
قد يرى البعض أن الاعتراف بعيد القيامة—الذي يقوم على الإيمان بقيامة السيد المسيح من الموت—يتعارض مع العقيدة الإسلامية، التي لا تعترف بحدوث هذه القيامة على نحوها في الإيمان المسيحي. لكن هذا الطرح، رغم حساسيته الدينية، لا يصلح مبررًا قانونيًا أو دستوريًا لحرمان مواطنين من حق متعلق بمعتقدهم الشخصي.
فالدولة، بوصفها كيانًا مدنيًا، لا يجوز لها أن تُخضع الحقوق الفردية الدينية لمعيار “مدى توافق العقيدة مع عقائد أخرى”، وإلا فإن مفهوم المواطنة يسقط، ويحل محله مبدأ “التمييز الديني” الذي يناقض جوهر الدستور.
الاعتراف بعيد القيامة لا يعني بالضرورة تبنّي الدولة لعقيدة دينية بعينها، بل يعني فقط أنها تحترم الطقوس الدينية لمواطنيها المسيحيين، تمامًا كما تفعل عند إعلان عيد الأضحى إجازة رسمية، دون مطالبة غير المسلمين بالإيمان به.
الدولة المدنية والتجربة التاريخية
واللافت أن الدولة المصرية ، قبل ثورة يوليو 1952، كانت أكثر تقدمًا في هذا الملف، إذ كانت أعياد المسيحيين، واليهود، وحتى البهائيين، تُدرج ضمن الإجازات الرسمية للدولة، وتحترم مؤسساتها تلك المناسبات دون تمييز، بما في ذلك المحاكم والوزارات والمدارس.
كان ذلك انعكاسًا لوعي مبكر بطبيعة المجتمع المصري المتنوع دينيًا وثقافيًا، وتجسيدًا عمليًا لفكرة الدولة المدنية التي تعترف بجميع مواطنيها، لا بعقيدة الأغلبية فقط.
أما اليوم، ورغم الدستور الذي يُقرّ بالمواطنة المتساوية، فلا تزال الممارسات الإدارية تعكس تمييزًا ضمنيًا، يجعل من حقوق فئة أساسية في المجتمع مسألة خاضعة للاعتبارات الدينية والسياسية، لا لمبدأ العدل والمساواة.
ختامًا: نحو إنصاف دستوري ومجتمعي
لا يمكن بناء دولة مدنية حديثة تحترم القانون إلا حين يشعر كل مواطن أن حقوقه مصانة دون انتقاص أو تمييز.
وعيد القيامة، بما يحمله من رمزية روحية عظيمة لدى المسيحيين، يجب أن يُعامل بما يعامل به عيد الفطر أو الأضحى لدى المسلمين.
والمطالبة باعتباره إجازة رسمية ليست منّة من أحد، بل هي استحقاق دستوري، لا ينتقص من أحد ولا يخص أحدًا، بل يُعزز مبدأ المساواة، ويكرّس احترام التنوع، ويُجسّد فكرة المواطنة كما نص عليها الدستور.
العدالة لا تتجزأ، والمواطنة لا تُنتقى، والكرامة لا تُقسم على أساس الدين.