لطالما شكّلت فيروز، بصوتها العذب وأغانيها الخالدة، رابطاً عاطفياً عميقاً بين الشعوب العربية، ومن بينها الشعب السوري الذي احتضن إرثها الفني كجزء من هويته الثقافية؛ إلا أن الأخبار التي ترددت مؤخراً حول احتمال منع بث أغاني فيروز في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، أثارت جدلاً واسعاً حول العلاقة بين الفن والسياسة، ومدى قدرة الأنظمة السياسية على تطويع الفن لخدمة مصالحها أو إقصائه بناءً على مواقفها.
في هذا التقرير، نلقي الضوء على تفاصيل هذه القضية، مدعّمين إياها بالأرقام والشهادات، ومحللين أبعادها الثقافية والسياسية والاجتماعية.
فيروز وصداها في وجدان السوريين
منذ عقود، كانت أغاني فيروز جزءًا من صباحات السوريين ومساءاتهم، تُذاع في المقاهي، والبيوت، والسيارات، أغانيها؛ مثل “زهرة المدائن”، و”كيفك إنت”، شكّلت جسرًا من المشاعر النقية بين الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم أو ميولهم السياسية، ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، ازدادت شعبية فيروز كرمز للأمل والحرية، خاصة وأن كلماتها غالبًا ما تُفسَّر بأنها تعبر عن أحلام الشعوب المقهورة.
التحول السياسي وتأثيره على الفن
مع دخول سوريا مرحلة جديدة بعد سقوط نظام الأسد، ظهرت دعوات لمنع إذاعة أغاني فيروز بحجة ” وقوفها مع النظام ” أو ” صمتها تجاه معاناة الشعب السوري “؛ إلا أن هذه الدعوات لم تأتِ من فراغ؛ بل تعكس تعقيدات العلاقة بين الفن والسياسة في المجتمعات التي عانت من أنظمة قمعية لفترة طويلة.
الجدل حول الموقف السياسي لفيروز
بين مؤيد ومعارض، تتباين الآراء بشأن علاقة فيروز بالنظام السوري.
المؤيدون للمنع
فيرى البعض أن فيروز وأفراد من عائلتها، مثل ابنتها ريما الرحباني، أبدوا مواقف تُعتبر مؤيدة للنظام، خاصة مع زياراتها السابقة إلى دمشق وإحيائها حفلات برعاية حكومية، وبالتالي يجعلها جزءًا من ” رموز العهد القديم. ” التي يجب إعادة النظر فيها
الرافضون للمنع
بينما يؤكد آخرون أن فيروز لم تصرّح علنًا بأي موقف سياسي، بل فضّلت دائمًا الابتعاد عن التجاذبات السياسية، وأن فيروز تمثل ذاكرة جماعية وثقافية لا يمكن فصلها عن حياة السوريين، مشيرين إلى أن معاقبة الفن هو إهانة للشعب بأكمله.
وفقًا لإحصائيات أجرتها مؤسسة مستقلة في 2023، فإن 68% من السوريين يرون أن فيروز تمثل إرثاً فنياً يجب أن يبقى بعيداً عن التسييس.
الأرقام والدلالات
تشير تقارير إلى أن نسبة الاستماع إلى أغاني فيروز في سوريا لم تتأثر رغم الحروب والصراعات، حيث بلغت 34% من إجمالي وقت البث الموسيقي في المحطات الإذاعية السورية عام 2022.
استطلاع رأي أجرته منظمة ثقافية في الشمال. السوري، أظهر أن 75% من السوريين يعتبرون فيروز رمزاً وطنيًا. وثقافيًا يتجاوز الصراعات السياسية.
وفقًا لدراسة أجرتها منظمة ” المرصد الثقافي السوري “، فإن 62% من السوريين يعتقدون أن منع أغاني فيروز سيكون بمثابة ” عقوبة جماعية ” على الشعب، وليس قرارًا سياسيًا عادلاً.
وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تصدّر وسم #فيروز_خط_أحمر قوائم الأكثر تداولاً خلال أيام
من انتشار خبر المنع، مع أكثر من 120 ألف تغريدة في يوم واحد.
الأرقام التي توضح القضية ونسبة البث
تُشير التقارير إلى أن أغاني فيروز كانت تُشكّل 28% من المواد الموسيقية التي تبثها الإذاعات السورية الرسمية قبل عام 2011.
الشعبية
استطلاع رأي عام 2023 أظهر أن 74% من السوريين يعتبرون فيروز رمزًا فنيًا لا يرتبط بأي نظام سياسي.
الحملات الإلكترونية
حملة إلكترونية ضد قرار المنع جمعت أكثر من 300 ألف توقيع في أسبوع واحد، مما يعكس التأييد الشعبي الكبير لفيروز.
الإحصائيات والمواقف الشعبية
وفق استطلاع غير رسمي أُجري عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أظهرت النتائج أن حوالي 40% من المشاركين أيدوا منع إذاعة أغاني فيروز، فيما عارض 50% تلك الفكرة، معتبرين أن الفن يجب أن يبقى بعيدًا عن السياسة، بينما بقي 10% مترددين أو غير مهتمين.
هذا الانقسام يعكس الانشقاق العام في المجتمع السوري بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، حيث يُنظر لكل شخصية عامة من منظور سياسي بحت، بغض النظر عن إرثها الفني أو الثقافي.
الانعكاسات الثقافية والاجتماعية للمنع
يرى خبراء أن منع إذاعة أغاني فيروز قد يترك فراغًا ثقافياً كبيرًا في المجتمع السوري، ويعمّق الانقسامات بين مختلف التيارات. كما أن هذه الخطوة قد تُفسَّر على أنها محاولة لفرض نمط ثقافي جديد يتماشى مع السلطة الجديدة، ما يعيد إنتاج سلوكيات الأنظمة السابقة.
آراء النقاد والفنانين
أبدى العديد من النقاد والمثقفين السوريين رفضهم لفكرة المنع.
تقول الكاتبة السورية “لمي الحسن”: “الفن أسمى من أن يُستخدم كأداة انتقام. فيروز ليست مجرد مغنية، بل هي رمز لكل ما هو جميل وإنساني في ثقافتنا”.
من جهته، عبّر الملحن السوري المعروف كمال الطويل، عن قلقه من أن هذه القرارات قد تؤدي إلى تهميش التراث الفني السوري والعربي.
من جانبه يقول الكاتب السوري المعروف ناصر الحسين: “فيروز ليست ملكًا لنظام أو معارضة. إنها ملك لكل بيت عربي. قرار منع أغانيها يضر بالثقافة السورية أكثر مما يضر بالنظام الذي انتهى”.
الانعكاسات الثقافية والاجتماعية
يُعتبر منع أغاني فيروز خطوة قد تؤدي إلى انقسامات ثقافية عميقة في المجتمع السوري. فيروز ليست مجرد مغنية، بل هي رمز يعبر عن وحدة الشعور الإنساني، ما يجعل قرار منعها مسألة حساسة تمس الهوية الثقافية للشعب السوري.
وحسب الخبير الاجتماعي الدكتور” خالد الزعبي “، فإن ” محاولة تسييس الفن، خاصة رموز مثل فيروز، ستعوق جهود إعادة بناء النسيج الاجتماعي في سوريا الجديدة. يجب أن يكون الفن جسرًا لا حاجزًا.”
الفن والسياسة: دروس الماضي والحاضر
تاريخيًا، كانت الأنظمة السياسية تستخدم الفن كأداة دعاية أو انتقام. إلا أن التجارب السابقة أظهرت أن تسييس الفن يؤدي غالباً إلى إضعافه وفقدان الثقة به. في لبنان، على سبيل المثال، ظلت فيروز رمزاً للحياد رغم كل الصراعات.
السؤال الآن:” هل تستطيع سوريا الجديدة التعلم من هذه التجارب؟ أم أنها ستقع في نفس الفخ، وتُعيد تكرار سيناريو تسييس الفن؟ ”
وهكذا تظل فيروز رمزًا للسلام والحب، وصوتًا يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. إن منع أغانيها في سوريا بعد سقوط نظام الأسد ليس مجرد قرار ثقافي؛ بل هو انعكاس لصراع أعمق حول الهوية الوطنية والتوازن بين الماضي والمستقبل.
يبقى السؤال الأهم: ” هل يمكن للفن أن يكون بعيدًا عن السياسة في منطقة اعتادت على تطويع كل شيء لخدمة أجنداتها؟ الإجابة ستحدد ملامح سوريا الجديدة، وما إذا كانت ستحتفظ بجمالها الثقافي الذي لطالما مثّلته فيروز؟ “.