داخل مستشفى حكومي في إحدى ضواحي القاهرة، وقفت آية، شابة في نهاية العشرينات، تحمل طفلها على ذراعها وتلفه ببطانية خفيفة رغم حرارة الصيف، الطفل يبكي باستمرار، ووجهه شاحب، بينما تحاول آية بصبر أن تحافظ على رباطة جأشها في طابور امتد حتى الرصيف الخارجي.
تقول بنبرة متعبة: “النهاردة تالت يوم أجيله المستشفى ومفيش لبن.. كل مرة يقولوا استنوا الشحنة الجديدة. ابني عنده حساسية من بروتين اللبن البقري، ومينفعش ياخد لبن عادي، بيمرض على طول”.
أمومة فوق طاقة البشر
آية أم لطفلين، تعمل مساعدة تمريض بنظام النبطشيات، وراتبها بالكاد يكفي الإيجار والمصروفات الأساسية، لم تكن تتخيل أن رحلة الأمومة ستأخذ هذا المنحى المؤلم: “البحث عن عبوة لبن علاجي من نوع نادر لا يُصرف إلا بوصفة طبية، ولا يتوفر إلا في مراكز محددة”.
“أوقات بلف على 4-5 مراكز في اليوم.. لو ملقتش، بروّح وأنا حاسة بالذنب.. ابني بيرجع كل الأكل، وبطله يسمن”.
سوق سوداء ومخاطر غير معلنة
تُعاني آية مما تسميه “الحيرة القاتلة” ما بين عبوات مدعومة غير متوفرة، وأخرى مستوردة تتجاوز أسعارها 600 جنيه، تُباع غالبًا على منصات التجارة الإلكترونية أو “تحت الترابيزة” في الصيدليات.
تقول: “مرة واحدة جبت له نوع من الإنترنت، بس طلع منتهي الصلاحية. ولما حاولت أرجعه، قفلوا التليفون، ومالقتش حد أرد عليه. والنتيجة؟ ابني دخل المستشفى بتسمم خفيف”.
يقول أحد الأطباء بمستشفى تخصصي للأطفال: “المشكلة مش في التشخيص.. المشكلة إننا مانقدرش نوفر لهم اللبن المناسب باستمرار، وده بيسبب ارتباك في الحالة الصحية والتغذوية للأطفال”.
وتسعى آية، مثل غيرها من الأمهات، إلى طرق أبواب متعددة: الجمعيات الخيرية، قوافل المساعدات، وحتى حملات “الخير أونلاين”، لكنها ترى أن هذا لا يمكن أن يكون حلًا دائمًا: “أنا مش طالبة صدقة.. أنا طالبة أبسط حقوق الطفل.. الغذاء المناسب اللي يحميه من الألم.. حرام يكون فيه علاج، ومش عارفين نوصل له”.
أزمة يعرفها الأطباء ويعجزون أمامها
وكانت قد كشف تقرير صادر عن “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” أن هناك مئات الأمهات يواجهن تحديات مماثلة شهريًا، في ظل ندرة ألبان الحساسية، خاصة تلك المخصصة لحالات نقص الإنزيمات الهضمية أو التمثيل الغذائي النادر
حلول قادمة لحل الأزمة
وفي خطوة تهدف إلى تقليص الاعتماد على الاستيراد وتخفيف العبء الاقتصادي عن الأسر المصرية، أعلنت الحكومة عن مشروع قومي ضخم لإنشاء مصنع محلي لإنتاج ألبان الأطفال العلاجية والعادية، بتكلفة تقارب 500 مليون دولار.
ومن المقرر أن يبدأ تشغيل المصنع بحلول عام 2027، ضمن خطة استراتيجية أوسع لتوطين الصناعات الطبية والغذائية الحساسة.
وصرّح خالد صلاح، المتحدث باسم جهاز “مستقبل مصر للتنمية المستدامة”، أن المشروع سيتم تنفيذه بالشراكة مع القطاع الخاص المحلي والدولي، مع تولي هذه الجهات مهام الإدارة والتشغيل الكامل لضمان الكفاءة والجودة.
وتشهد مصر أزمة متفاقمة في ملف ألبان الأطفال، إذ تستورد الدولة سنويًا ألبان أطفال ومنتجات ألبان بقيمة تقترب من مليار دولار، ما يُمثّل ضغطًا كبيرًا على ميزان المدفوعات وعبئًا اقتصاديًا متزايدًا.
وقد ارتفعت واردات ألبان الأطفال المركزة وحدها بنسبة 9.4% خلال عام 2024، لتسجل نحو 225 مليون دولار، في ظل غياب إنتاج محلي كافٍ. وتعكس أسعار السوق المحلية حجم الأزمة، حيث تجاوز سعر عبوة اللبن الصناعي العلاجي 750 جنيهًا في بعض الأوقات، مقارنة بـ65 جنيهًا فقط في عام 2015، مما يضع آلاف الأسر أمام خيارات صحية ومالية قاسية.
ورغم هذا الواقع، لا يوجد في مصر حاليًا سوى مصنع وحيد متخصص في إنتاج ألبان الأطفال، تابع لشركة “لاكتو مصر”، ويُصدر معظم إنتاجه إلى أسواق شمال أفريقيا دون تغطية كافية للاحتياج المحلي.
– اقرأ أيضًا: غضب واستياء.. لماذا قفزت تكلفة الحج البري في مصر بنسبة 30% هذا العام؟ (تفاصيل)