بدأ كل شيء في قسم “الفيتشر”، ذلك السهل الممتنع إن جاز الوصف، أبسط ما في الصحافة وأعقد ما فيها، حين تعلمت أن أنسج قصة محكمة من صورة، كلمة، لافتة على الطريق أو منزل مهمل بين ثنايا الحارات الضيقة، فأحببتها، مهنة متعتها تزداد بمعدل زيادة صعوبتها، هذا الشعور بالانتصار حين تضع العنوان الأخير على سقف متن محكم البناء، يجذب دون أن يكذب، يصدق وإن كان صدقه مهلكًا… لكنني لم أعلم أنها بداية اللعنة.
جذبتني السياسة- قاتلها الله- فخضت في دروبها أنقش على أوراقي ما يفيض به عقلي دون إخفاء، دون مواربة، دون خوف من باطش أو تملق لذي جاه أو إرضاء لذي منصب، والحق أقول قد خدمتني الظروف وساعدني التوقيت، فبدأت مشواري بُعيْد انتصار ثورة يناير، حين كان الحق مطلوبًا، وسوق الصدق منتعشًا، وقت أن كانت الكلمة تجارة لا يمكن إلا أن يربح بائعها، حين كان الرقيب ضميرك و”الإخبار” وظيفتك.
شاءت الأقدار أن أخوض تجارب مع رموز ظللنا سنوات نقدس أسماءها، ونجمع شتات كتاباتها من بقايا الصحف قديمها وحديثها، بل ونزين جدران الغرفة بأعمدتهم وعناوين صفحاتهم، رموز فاقت صدمتي فيهم أقصى مراحل الخيال الهوليوودي، لتسقط رمزيتهم من حالق إلى أسفل سافلين، وتبدأ رحلة الشك في كل شيء، فيتكشَّف لنا أن ما قرأناه من إفراز أحبارهم، إن هو إلا “مَرَمَّة” لتسويق البضاعة الرائجة، ففي زمن يناير لم ترج بضاعةَ رواج الحق، أراد الزبون الحق آنذاك، والزبون دائمًا على حق، والحق يُقال وقحًا، إنا حسبنا الشحم فيمن شحمه ورم.
مارس 2014، مقال أخير على موقع (من سخرية الأقدار أنه اليوم من المحجوبين) قذف بي بعيدًا عن قائمة كتابه، دون تفسير أو تعليل سوى كلمات أربع: “الوضع اتغير يا درش”… وبدأت رحلة جديدة قذفت بي من جريدة إلى أخرى ومن موقع إلى موقع، لأصوغ نفس الكلمات، بذات “الكليشيهات” وتتحول حياتي لدائرة مفرغة من “استنى بيان الوزارة”، ذلك التوجيه الجهنمي الذي استحال كابوسًا يعيش بعقلي الواعي ولا وعيي في سرمدية.
عملية إرهابية… “استنى بيان الوزارة”، تعويم الجنيخ… “استنى بيان الوزارة”، القطر ولّع… “استنى بيان الوزارة”، الأهلي فاز بدوري الأبطال، حسنًا هذا مجرد انفعال، فالجميع يعلم أن الأهلي دائمًا ما يفوز بدوري الأبطال، لكن الأمر بلغ بنا حد انتظار بيانات حكومية لنشر أخبار عرفها العالم أجمع من مواقع أجنبية، بل إنا نخاف اليوم من التلاعب بعنوان البيان لئلا يرفضه رقيب لا نعلم كنهه، فترفع الأقلام وتجف الصحف بين زنازين المطابع.
عشقت “صاحبة الجلالة”- وقت أن كانت ذا جلالةـ وانسحقت فيها حتى اللانهاية، فتنتني “اللقطة” وأخذني العنوان وأبهرتني الصورة، ألِفت الاشتباك والاعتراض والمواجهة، اخترت السياسة كونها الأكثر اشتباكًا مع الواقع، لم أرَ نفسي يومًا أحلل مباراة أو أجري مقابلة مع فنان ما، لم أشعر بذاتي إلا وسط هؤلاء الثائرين الغاضبين الرافضين، حول مائدة تطرح ما يرفض الحاكمون بأمر القوة طرحه، بين أولئك الصارخين أن “الحق أحق أن يتبع”.
ظللت أحاول أن أجد منفذًا بعد كل تضييق يُفرض، فأتنقل بين مغلق ومحجوب ومفلس ومهدد، إلى أن أتت لحظة حقيقة أدركت فيها أن لا مكان لي، وأنّى يكون لي موضع وكل من كنت أستأنس بكلماتهم الودود الصادقة ضاعوا بين سجين ومنفي ومضطهد ومتحول وصموت، أدركت حينها أن ساعة الحق جاءت فلا مفر، وآثرت “الديسك” مقبرةَ أعيش بين جدرانها موظفًا ينتظر ساعة التقاعد، قبل أن يُتم عِقده الثالث، لكني- والحمد لله- قد تركتها قبل أن أتمّه، تركتها غير آسف عليها، غير عازم على العودة مهما تغيرت الظروف، طلقتها ثلاثًا، دون ذرة من ندم…
ولكني، رغم المهانة والهوان، رغم انكسار العين والقلب في كل كلمة يخطها قلمي اليوم، سأظل أفخر بأني اقتنصت من سنوات الحرية قليل القليل، وقلت وقتما أتيح القول، وثبت على مبدأ كلفني ضياع الشغف فيما أحببت، ومستقبل حلمت به لسنوات وسنوات، اليوم ألوح له بيدي، أن وداعًا يا صديقي الذي لن ألتقيه أبدًا.