“لو نفسك تبقى مذيع.. ما تدورش على كلية إعلام، ولا تفكر في تدريب، ولا تسأل عن النقابة، كل اللي محتاجه مبلغ تحت الحساب”، بهذه الكلمات الساخرة تبدأ حكاية عالم خفي يُباع فيه “الهواء”، وتُصنع فيه الشهرة على عجل، وتُرتدى فيه عباءة “الإعلامي” بأبخس الأثمان.
في قنوات خاصة، بعضها يعمل خارج القانون، أصبح الظهور على الشاشة مسألة حسابية بحتة “ادفع.. ونذيع”، وما بين حلم الشهرة وسراب المصداقية، تسلّل إلى المشهد العشرات ممن لا علاقة لهم بالإعلام لا من قريب ولا بعيد، يقدّمون أنفسهم على أنهم “إعلاميون”، يروجون، يبتزون، يُضلّلون، والمشاهد هو الضحية الأولى، والمهنة هي الخاسر الأكبر.
حين تتحول الأضواء إلى ستار للجريمة
كانت أبرز نتائج ظاهرة بيع الهواء، ما ضجت به وسائل الإعلام ومواقع التواصل باسم سارة خليفة، بعد ما تحولت فجأة من “إعلامية شابة” وصاحبة برامج فنية خفيفة، إلى المتهمة الرئيسية في واحدة من أخطر قضايا تصنيع وتهريب المخدرات في مصر، بقيمة تجاوزت 420 مليون جنيه.
سارة لم تكن مجرد شخصية مجهولة، بل وجه معروف لدى المتابعين، عملت في تقديم البرامج بقنوات فنية، أطلقت شركة إنتاج، وامتلكت عيادة تجميل بالعجوزة، واستقطبت جمهورًا واسعًا بفضل حياتها اللامعة على “إنستجرام” وتعاونها مع نجوم المهرجانات مثل حمو بيكا ومصطفى حجاج.
لكن خلف هذه الصورة، كانت سارة – حسب التحقيقات – تدير شبكة دولية لتهريب وتصنيع المخدرات، باستخدام شقق سكنية كـ”معامل سرية”، وتم ضبط أدوات تصنيع، سيارات فارهة، ومبالغ ضخمة بعملات مختلفة.
وما يجعل الأمر غريب أن سارة لم تكن تُعرف بارتباطها بأي خلفية إعلامية أكاديمية، ولم تكن عضوًا في نقابة الإعلاميين، وإنما كانت واحدة ممن وجدوا نافذة في السوق المفتوح للإعلام الخاص، اشترت وقت بث، وصنعت لنفسها منصة، ونسجت حولها هالة الشهر، ثم استخدمتها غطاءً لنشاطات غير قانونية.
إعلامي مزيف وحارس وهمي
وفي مشهد آخر يعكس كيف يمكن لصناعة الوهم أن تبدأ من لا شيء، يظهر على منصات التواصل شخص يقدم نفسه كإعلامي، يضع خلف اسمه لقبًا مدوّيًا، ويصوّر نفسه إلى جانب شخص يدعي أنه حارسه الشخصي، لتنهال عليه التعليقات، حيث قال أحد رواد المواقع: “طبيعي طالما “الهوا بيتباع!”.
وذكر آخر: “والأهم من كل ده إنه كاتب وصف للصورة علشان بس يعرفنا قد ايه هو مهم ومستهدف و ميقدرش يمشى زيه زي الناس كده عادى، والغريبة إن لو حد شافه فى الشارع ولا هيعرفه ولا هيعرف مين بيحرس مين وبيحرسه من إيه أصلا”.
وتابع: “دي كلها قنوات بير سلم أي حد معاه ألفين جنيه يقدر يشتري حلقه ويطلع يقول أي بتنجان، ويتصور ويقول على نفسه إعلامي، بس العيب مش عليهم العيب على القنوات اللي مصرح ليها تشتغل داخل المدينة بالأسلوب ده”.
عبد الجواد أبو كب: بيع الهواء يشوّه صورة الإعلام المصري ويهدد أمنه القومي
وجه الكاتب الصحفي عبد الجواد أبو كب، عبر خطاب رسمي إلى الوزير المهندس خالد عبد العزيز، رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، دعوة عاجلة لاتخاذ إجراءات فورية لوقف ظاهرة “بيع الهواء” في الإعلام المصري، التي أصبحت تهدد صورة الإعلام الوطني والأمن القومي في الآونة الأخيرة.
وفي خطابه، أكد “أبو كب”، على الدور الاستراتيجي الهام الذي يلعبه الإعلام المصري كقوة ناعمة لصالح الوطن وأمنه القومي، مشيرًا إلى أن الإعلام المصري تعرض لتحديات كبيرة في السنوات الأخيرة، خاصةً مع ظهور “ظاهرة بيع الهواء” دون ضوابط مهنية، مما أثر على مصداقية الإعلام المصري في الخارج. وأضاف أنه قد تم رصد حالات عديدة لقنوات إعلامية تتاجر باس
م الدين وتستغل الشاشات لأغراض تجارية، مثلما حدث في قضية سارة خليفة، التي استخدمت الإعلام كستار لتجارة المخدرات.
وأوضح “أبو كب”، أن هذه التجاوزات تؤثر بشكل سلبي على سمعة الإعلام المصري، لا سيما في الدول العربية التي تجد صعوبة في التفريق بين القنوات المهنية وأخرى تروج لأجندات شخصية.
وطالب الكاتب الصحفي عبد الجواد أبو كب المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام باتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف هذه الانتهاكات، مشددًا على أهمية تنفيذ اللوائح والضوابط التي تضمن الحفاظ على مكانة الإعلام المصري كأداة للتمثيل الوطني والمصداقية.
اقرأ أيضًا: نقيب الإعلاميين: سارة خليفة ليست إعلامية ومنتحلة صفة
البرلمان يتحرك
في نفس السياق، تقدمت النائبة هالة أبو السعد، وكيل لجنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة بمجلس النواب، بطلب إحاطة رسمي موجه إلى الحكومة، وذلك عقب ضبط منتجة ومقدمة برامج تُعرف بالأحرف الأولى “س.خ”، متورطة في واحدة من أكبر قضايا تصنيع وترويج المواد المخدرة في مصر، بعد ضبط 200 كجم من الحشيش والشابو المصنع، تقدر قيمتها السوقية بأكثر من 420 مليون جنيه.
وكشفت النائبة، في طلبها، أن التحريات الأمنية أظهرت أن المتهمة لا تحمل أي مؤهل إعلامي أو أكاديمي، بل إن مستواها التعليمي لا يتجاوز المرحلة الابتدائية، ومع ذلك ظهرت في عدد من القنوات كمقدمة برامج، دون تصريح رسمي من نقابة الإعلاميين، أو خضوع لأي ضوابط مهنية.
وانتقدت أبو السعد، بشدة حالة الفوضى الإعلامية التي سمحت لأشخاص من خارج الوسط الإعلامي الحقيقي بالسيطرة على مساحة واسعة من الشاشات، في الوقت الذي يعاني فيه خريجو كليات الإعلام من التهميش والغياب عن الساحة.
وأضافت: “ما يحدث ليس فقط خرقًا إداريًا، بل جريمة انتحال صفة تستوجب العقاب وفقًا لنص المادة 88 من قانون نقابة الإعلاميين رقم 93 لسنة 2016، والتي تنص على الحبس لكل من يمارس النشاط الإعلامي دون ترخيص”.
وأكدت أن بعض منتحلي الصفة استغلوا الظهور الإعلامي لبناء شبكات علاقات ونفوذ، واستخدموا الشاشات كغطاء لأغراض أخرى، مشددة على أن الواقعة الأخيرة تمثل ناقوس خطر حقيقي بشأن حالة الانفلات في المشهد الإعلامي.
وطالبت النائبة بتطبيق صارم للقانون، مع قصر الظهور الإعلامي على المؤهلين الحاصلين على تصاريح النقابة، تحت إشراف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، مع تشديد الرقابة على القنوات والبرامج التي تمنح مساحاتها لأشخاص غير مؤهلين.
تحذيرات قديمة بلا ردع
وفي عام 2021، أكد الدكتور طارق سعدة، نقيب الإعلاميين وعضو مجلس الشيوخ، أن نقابة الإعلاميين رصدت خلال عام 2021 أكثر من 100 شخص يمارسون النشاط الإعلامي دون تقنين أوضاعهم القانونية، سواء من خلال الحصول على عضوية النقابة أو استخراج تصاريح مزاولة المهنة، بالمخالفة الصريحة لقانون نقابة الإعلاميين رقم 93 لسنة 2016.
وأوضح سعدة أن القانون يلزم كافة العاملين في خمس وظائف إعلامية رئيسية وهي: الإعداد، التقديم، الإخراج، التحرير، والمراسلة، بتوفيق أوضاعهم القانونية، وإلا يُعرضون أنفسهم لمسؤولية جنائية بتهمة انتحال صفة إعلامي، وهي جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس والغرامة، كما نصت المادة 88 من قانون النقابة.
وأضاف نقيب الإعلاميين، أن النقابة بصدد إرسال خطابات رسمية إلى القنوات الفضائية تتضمن أسماء العاملين غير المقيدين بجداول النقابة، أو من انتهت مدة تصاريحهم دون تجديد، محذرًا من أن استمرارهم في العمل الإعلامي دون تقنين يُعد مخالفة جسيمة تستوجب اتخاذ إجراءات قانونية صارمة، تشمل تقديم بلاغات رسمية، وتوقيع غرامات، وربما غلق المنشآت الإعلامية التي تسمح لهؤلاء بمزاولة المهنة.
كما أشار إلى أن عددًا من القنوات، على رأسها قناتا المحور والحدث، بادرت بتقديم طلبات رسمية لتوفيق أوضاع العاملين بها، إما بالحصول على عضوية أو تجديد التصاريح المنتهية.
قانون نقابة الإعلاميين
ينص الفصل الثامن من قانون نقابة الإعلاميين على عقوبات مشددة تجاه المخالفين؛ إذ تقضي المادة (88) بـ الحبس أو الغرامة التي لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تتجاوز 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من مارس نشاطًا إعلاميًا دون قيد أو تصريح، أو أدلى ببيانات غير صحيحة للنقابة.
فيما تنص المادة (89) على توقيع غرامة مماثلة على المسؤولين عن الإدارة في المؤسسات الإعلامية غير الحكومية، إذا سمحوا لأفراد غير مقيدين بممارسة النشاط الإعلامي، مع إمكانية غلق المنشأة إعلاميًا وحرمان الشخص من العمل الإعلامي داخل مصر، خاصة في حال تكرار المخالفة.
اقرأ أيضًا: لمواجهة الشائعات.. توقيع بروتوكول تعاون بين نقابة الإعلاميين ووزارة الشباب والرياضة