في قرية ما، ليست على خارطة العالم، لكنها حاضرة في الوجدان، تدق طبول الانتخابات كما لو أنها موسم من مواسم الحصاد. كل شيء يوحي بالاحتفال: اللافتات، الهمسات، وحتى الصمت المريب في بعض البيوت. لكن ثمة شيء مفقود، لا رائحة له ولا صوت، هو العقل الجمعي الذي خُدر طويلًا حتى بات ينتظر النائب كمن ينتظر مشهدًا من مسلسل كوميدي يُعيد نفس النكتة كل موسم، وكأن الزمن يدور في حلقة مفرغة.
دعونا مرشحي “دولتنا تلبانة المباركة”، من باب الواجب لا المجاملة، لكنهم ضربوا الدعوة بعرض الحائط. فانتظرنا الرد من الناخب. جاءنا على الخاص: “سوف أقاطع الانتخابات، لأنني أشعر بالحرج في حال عدم وجود اتفاق على مرشح أو اثنين”.
أي خجل هذا الذي يصيب شعبًا عند مفترق طرق..؟! وهل يقاطع الجائع رغيفه لأن الطهاة اختلفوا على المكونات…؟ إنها رسالة بعيدة عن ثقافة “ألتراس الانتخابات”، في موسمها الذهبي، فهل في هذه القرية رجل رشيد؟
لم نتحدث عن شخص بعينه، بل أطلقنا نداء: “تلبانة أولاً”. فمن لم يحترم هذا النداء، كيف يواجه الناس؟ وكيف يواجه مشروعًا أو اقتراحًا أو حتى طلب إحاطة؟ علمًا بأن بعض المرشحين لا يعرفون الفرق بين الاستجواب وطلب الإحاطة!
بالله عليكم، من بين هؤلاء من يستطيع أن يقدم مشروعًا إذا فاز في الانتخابات لحل أزمة القمامة المتراكمة أمام مواسير الترع المغطاة؟ من يتصدى لمأساة رغيف الخبز الذي يُحجز ليلاً في عز الشتاء؟ من يطرح حلاً حقيقيًا لمشكلة الارتفاع الرأسي في المباني، في حين تُمنع المباني على الأراضي الزراعية رغم الزيادة السكانية الخانقة وغياب أي ظهير صحراوي؟
أين حلول أزمة أراضي الأوقاف؟ لماذا لا تُطرح مبادرات لاستصلاح أراضٍ بديلة تحافظ على ملكيتها وتسهم في التنمية؟ أين هي الأفكار المطروحة في ظل صراع إقليمي جيوسياسي واقتصادي خانق يضرب المنطقة؟
أين اقتراحات إعادة تدوير مياه الصرف الزراعي وضخ المياه الجوفية (240 مليار متر مكعب في الدلتا، و200 مليار في الوادي)؟ من يعيد للفلاح مكانته عبر منظومة رقمية تضمن له حقوقه وتكسر احتكار الأسمدة؟ من يعيد النظر في المحاصيل النقدية المؤثرة في ميزان النقد الأجنبي؟ من يتحدث عن إعادة هيكلة وزاراتنا لتواكب العولمة في النظام التجاري العالمي؟ من يعيد ترتيب الزراعات الموسمية لتوفير المياه شتاءً لمواجهة صيف ساخن طويل؟
من يتبنى مقترح إنشاء معسكرات لإعادة تأهيل المدمنين كما تفعل بعض الدول المتقدمة؟ من يخطط لإعادة النقل الجماعي داخل المدن للقضاء على الازدحام الناتج عن ميكروباصات خُصصت أصلًا لنقل عمال النفط في دول نامية قبل نصف قرن؟
من يضبط الحقل الإعلامي والصحفي، ويطالب بسحب التراخيص من المواقع غير المرخصة وغير المؤمنة على موظفيها؟ من يعيد القرية إلى الإنتاج، بعد أن تحولت إلى مجرد مستهلك؟ من يطالب بإلغاء بطاقة التموين التي أنشئت في زمن الحروب، وإعادة تفعيل الرقابة على التسعيرة الجبرية؟ من يُحرك الأجهزة الرقابية للتحقيق في الشكاوى خلال 48 ساعة؟ من يُقنن سير الدراجات والتكاتك داخل القرى ويمنح السائقين تراخيص تحت مظلة التأمين؟
أما الصحة والتعليم، فهما يحتاجان إلى إعادة هيكلة شاملة، تواكب التحديات العالمية، وتضع الإنسان في قلب أي مشروع حضاري.
كل ما تقدمت به هو بعض ما قُدم للجنة الحوار الوطني، ومنه ملف أراضي الأوقاف، لكن للأسف، النائب الذي كنا ننتظر منه ثقافة إدارية وفكرًا تشريعيًا، قد غاب خلف المجاملات والارتباطات، وورث طريقة الحشد التقليدي لا المشاريع الواقعية.
نحن لا نعيش أزمة أفراد، بل أزمة وعي. لماذا نحن متأخرون…؟ لأن النائب يُختار على أساس “الترتيب العائلي” لا الكفاءة. في الجغرافيا مادة مهملة اسمها “جغرافيا الانتخابات”، يتضمن أحد فصولها حالة من اللامبالاة السياسية في المجتمعات المحلية، حيث ينام “الخال” في انتظار أن يضرب الحرامي، فيُسرق الزرع والمواشي وهو نائم هو وخاله والقرية كلها..!
الانتخابات ليست مهرجانًا للمجاملات، بل معركة وعي، ومن لا يسأل النائب عن مشروعه، فلا يحق له أن يشكو من ضياع الأمل….!!