طالعتنا مؤخرًا مقاهي “شبكات التواصل الاجتماعي”، كما يحلو للبعض تسميتها، بوجوهٍ وأسماءٍ تنادي بالترشح تحت شعار “فكر جديد”. وبقدر ما يحمل هذا الشعار من بريقٍ لغوي، فإنه سرعان ما يتحول إلى سحابةِ دخانٍ رمادية عند أول اختبارٍ للفهم والمضمون.
لقد استغربت، بل شعرت بالأسى، حين قرأت بعض المنشورات التي تتشدق بكلمة “فكر” دون أن تعي معناها، وكأنها سلعةٌ ترويجية موسمية، تصلح لبطاقةٍ انتخابية أو إعلانٍ تجاري أكثر من كونها جوهرًا لمشروعٍ معرفي أو سياسي. فهل يعرف من يتحدث عن “فكر جديد” ما تعنيه الكلمة أصلًا؟ أم أنها مجرد “كلمة رنانة” في سوق الشعارات؟
إن الفكر ليس مجرد رأيٍ أو موقفٍ عابر، بل هو بناءٌ معرفيٌّ متماسك، تحكمه أدواتٌ تحليلية ومنهجية، وينبثق عن خلفيةٍ أيديولوجية واضحة. والأيديولوجيا، لمن لا يزال يخلط بينها وبين “الإيدي” أو “اللاجيا”، هي منظومةٌ من الأفكار والقيم التي تُوجّه السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وقد تعلمنا، لا في كتب التنظير الفارغة، بل في قاعات الجغرافيا السياسية والتاريخ الاجتماعي، أن هناك ثلاث أيديولوجيات كبرى حكمت العالم المعاصر:
الاشتراكية: التي تضع العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية في صميم مشروعها، وتنظر إلى الدولة كأداةٍ لتحقيق التوزيع العادل للثروات.
الليبرالية: التي تقدّس الحريات الفردية، وتعتبر السوق الحر والحكم الدستوري أسسًا للتطور والنمو.
الإسلام السياسي (أو الإسلاميون): الذين يطرحون تصورًا دينيًا شاملًا للحكم والمجتمع، يستند إلى الشريعة كمصدرٍ تشريعي.
هذه الأيديولوجيات، رغم تبايناتها، كانت واضحة في مرجعياتها، واعية بأدواتها، وتحترم – ولو نظريًا – عقول المتلقين. أما اليوم، فنجد من يختزل كل هذا التاريخ في جملةٍ جوفاء: “فكر جديد”، دون أن يكلّف نفسه عناء التوضيح، لا للمرجعية ولا للمضمون.
هل هو فكر ليبرالي؟ يساري؟ إسلامي؟ أم أنه مجرد “كوكتيل شبابي” على طريقة المقاهي الإلكترونية؟
حقًا، نحن أمام فوضى لغوية ومفاهيمية تعكس خواءً فكريًا عميقًا، وتكاد تكون إهانةً للباحثين والدارسين والأكاديميين. فأن تتحدث عن “فكر” دون مرجعية، أشبه بمن يتحدث عن “دواء جديد” دون معرفةٍ مسبقة بالطب أو تشخيصٍ للداء.
إن ما نحتاج إليه ليس فقط “أفكارًا جديدة”، بل احترامًا للعقل الجمعي، واعترافًا بتراكم الفكر البشري؛ لا نُسفّه القديم لمجرد أنه قديم، ولا نُقدّس الجديد لمجرد أنه “حديث الموضة”. فالفكر، كما التاريخ، لا يُكتب بالهاشتاغات، ولا يُصاغ على عجلٍ بين فنجاني قهوة و”سيلفي ترشيح”.
فكفّوا عن العبث بالمصطلحات، واتركوا الفكر لأهله، والشارع لأهله، والسياسة لمن يحمل مشروعًا حقيقيًا، لا لمن يركب موجة “الترند”.
فالعقول لا تُقاد بالشعارات، والوعي لا يُصنع في غرف الدردشة، ومن لا يعرف الفرق بين الأيديولوجيا والإملاء، فليجلس في مقعد المتفرجين، بدلًا من تلويث المنصة.
كفى استخفافًا بعقول الناس، كفى استهبالًا باسم “الجديد”، فإن لم يكن لديكم فكر… فاصمتوا!