كنت – ولا زلت – من أولئك الذين يفخرون بأنهم عملوا إلى جوار الأستاذ خالد صلاح، وتعلموا منه أن الاشتباك الفكري، متى خلا من التهوين والتهويل، ومتى التزم بأدب الحجة، لا يستدعي الملامة، بل ضرورةٌ من ضرورات المهنة والوعي.
في إطلالته الأخيرة عبر ما اصطلح على تسميته بـ”البودكاست”، بدا الأستاذ خالد صلاح وكأنه لا يشتبك هذه المرة مع خصم مهني أو رأي سياسي، بل مع منظومة القيم ذاتها، حين قرر أن يسرد روايةً عن زواجه الثاني، لا بوصفه طرفا فاعلاً فيها، بل كأنه شاهد يروي، رغم أن يده على الفعل، وصوته على الحكاية، ونيته إعادة تشكيل المشهد لصالحه.
قالها بوضوح: “زوجتي الثانية هي الأولى في قلبي”، جاعلاً من العاطفة ذريعةً لإعادة ترتيب الوقائع، وكأننا بإزاء راو يحاول أن يجمّل الجريمة بلغة عاطفية، لا أن يعتذر عنها، أو حتى يعترف بثقلها على ميزان العدالة القلبية.
وهنا، تقفز إلى الذهن شخصية “أبو زيد العمدة” من فيلم الزوجة الثانية، ذاك الذي امتلك سلطة القرية فاستغلها، بينما امتلك خالد صلاح سلطة الميكروفون، فنسج منها دفاعًا سرديًا، حاول من خلاله تمرير موقف مُربك، لا يخلو من خيانة عاطفية، بل يجاهر بها ويزخرفها بتفاصيل محبوكة، كما لو كانت رواية قدرية خالصة، لا علاقة له فيها بقرار أو إرادة.
الفرق بين العمدة الريفي وأستاذنا “البوب” ليس في النية، بل في الوسيلة.
الأول أجبر الفقير على تطليق زوجته لينكحها بالقهر، والثاني تذرع بالحب ليُعلن أن العلاقة الثانية كانت ستظل في الخفاء، لولا أن الزوجة الأولى قد ضبطت المشهد.
وما بين التهديد والاستباق، تظل النتيجة واحدة: خيانة مغطاة بـ”القدر”، لا باعتراف خالص.
ما يميز الأستاذ خالد صلاح في هذه الرواية، ليس فقط جرأته على البوح، بل مهارته في هندسة الحكي. فهو، في آنٍ معًا، الراوي والمخرج والبطل والمُتّهم.
ينسج الحكاية بطريقته، يمنع غيره من روايتها، لأنه يعرف أن أحدًا لن يُجيد تبريرها كما يجيد هو.
وهذا في حد ذاته نوع من التحكّم في السرد، لا يختلف عن تحكّم السلطة في الرواية الرسمية.
ومع ذلك، فإن المعضلة الأخلاقية لا تُحلّ بسلاسة الحكي، بل تُثار بقوة بعد إسدال الستار:
هل يُعفى الجاني من فعلته إذا روى حكايته بشغف؟
وهل نمنح الغفران لمن يعترف، إذا كان اعترافه مُطعّمًا بالحب لا بالندم؟
أم أن هذا البودكاست لم يكن سوى محاولة بارعة لتمرير الجرح في غلاف من بلاغة المشاعر، يُلهي عن الفعل بتضخيم الإحساس؟
في السينما، دفع “أبو زيد” ثمن جشعه، وانقلب عليه أهل القرية.
أما في الواقع، فقد أنهى خالد صلاح حلقته مبتسمًا، وكأن الخيانة إذا وُضعت في جملة إنشائية أنيقة، باتت قصة عشق تستحق التصفيق.
لكن الحقيقة الأقدم من كل بودكاست، أن الكلمات، مهما بلغت سحرها، لا تمحو وجعًا عاشه قلبٌ طُعن ثم صمت.
ولا بأس أن يروي الأستاذ خالد صلاح ما يشاء…
لكن عليه أن يعلم أن للقصص وجهين، وأن للعدالة ذاكرة… لا تُجامل الموهبة.