جذور الأزمة:
تعود جذور الأزمة إلى القانون رقم 121 لسنة 1947، والذي صدر عقب الحرب العالمية الثانية لحماية المستأجرين في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية قاسية. كان القانون في حينه مؤقتًا واستثنائيًا، يستهدف معالجة أزمة سكن قائمة في زمن معين.
لكن التحوّل الأكبر وقع في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حين تبنّت الدولة توجهًا اشتراكيًا صريحًا، اعتبر السكن حقًا اجتماعيًا لا يخضع لآليات السوق. فصدر قانون يجمد الأجرة، ويمنع المالك من إنهاء العقد، بل ويمد العلاقة تلقائيًا بعد وفاة المستأجر إلى أولاده وأحفاده.
ثم جاءت قوانين لاحقة – أبرزها القانون 49 لسنة 1977، والقانون 136 لسنة 1981 – لترسخ هذا الامتداد وتُبقي على تثبيت الأجرة، دون مراعاة لتغير الزمن، وارتفاع الأسعار، وتبدل الأحوال.
وهكذا، أصبحت العلاقة الإيجارية في مصر حالة فريدة من نوعها: ممتدة عبر أجيال، ثابتة الأجرة لعقود، لا يمكن تعديلها أو إنهاؤها بإرادة المالك، ما أدى إلى أزمة مركبة، اجتماعية واقتصادية وإنسانية.
الموقف القانوني:
مع تصاعد الشعور بعدم التوازن في العلاقة بين المالك والمستأجر، بدأت المحكمة الدستورية العليا بالتدخل لإعادة الأمور إلى نصابها:
• في عام 2002: قضت المحكمة بعدم دستورية الامتداد القانوني لعقود الإيجار غير السكنية بعد وفاة المستأجر الأصلي.
• في عام 2018: أكدت أن الامتداد المطلق يتعارض مع مبدأ العدالة، وينتهك الحق في الملكية، ويقيد حرية التعاقد.
• في نوفمبر 2024: أبطلت المحكمة الفقرتين الأولى والثانية من قانون 136 لسنة 1981، فيما يخص تثبيت الأجرة للوحدات السكنية، واعتبرته عدوانًا على الملكية الخاصة.
• في أبريل 2025: قررت المحكمة إعادة النظر في دستورية لجان تحديد الأجرة، وأحالت القضية للمرافعة.
تلك الأحكام كشفت بوضوح أن الوضع القانوني الحالي يُخالف مبادئ الدستور، ويُفرغ حق الملكية من مضمونه، ويحتاج إلى إصلاح تشريعي عاجل.
الموقف الشرعي:
ترى الشريعة الإسلامية أن عقد الإيجار هو عقد معاوضة مؤقت، يشترط فيه رضا الطرفين وتحديد المدة.
وقد أجمع الفقهاء من المذاهب الأربعة على:
• انتهاء الإيجار بانتهاء مدته.
• عدم جواز استمرار المستأجر في العين بعد انتهاء العقد دون إذن المالك.
• عدم توريث عقد الإيجار، لأن المنفعة لا تُورّث شرعًا.
قال الإمام النووي: “إذا انقضت مدة الإجارة، فالمستأجر غاصب إن لم يخرج”.
وقال ابن قدامة في “المغني”: “من أقام بعد انقضاء العقد دون إذن المؤجر فهو غاصب، ضامن، آثم”.
وأكدت دار الإفتاء المصرية أن استمرار العلاقة الإيجارية دون رضا المالك، وبأجرة زهيدة، لا يجوز شرعًا، ويُعد أكلًا لأموال الناس بالباطل.
وأعلن مجمع البحوث الإسلامية أن الامتداد الإجباري يُعد عدوانًا على الملكية الخاصة، ومخالفًا لمقاصد الشريعة في حفظ المال.
كما قال الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل: “ما لا يُرضي الله لا يمكن أن يُقرّه القانون، وتثبيت الإيجار رغم تغيّر الأحوال ظلم بيّن لا تقبله الشريعة”.
وأكد الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق: “عقود الإيجار التي لا تُراجع قيمتها لعقود طويلة تخرج من العدالة، وتحوّل العلاقة من انتفاع مشروع إلى استغلال لا يقرّه الشرع”.
وقال تعالى: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” [النساء: 29].
وما يحدث من حرمان المالك من عائد ملكه لعشرات السنين دون مقابل عادل، يدخل في هذا النهي الشرعي الصريح.
الفرق بين الإيجار والتملك:
الإيجار هو عقد انتفاع مؤقت، لا يُورّث، ولا يمنح المستأجر حق التصرف في العين. أما التملك فهو حق كامل في العين والمنفعة، قابل للتوريث والتصرف الكامل.
لكن الواقع الحالي خلط بين المفهومين، فبات المستأجر يُعامل كمالك، يورث الشقة لأبنائه، ويمنع المالك من التصرف في ملكه، في مخالفة صريحة للقانون والشرع معًا.
مكاسب الملاك:
في حال تعديل القانون وإصلاح العلاقة الإيجارية، فإن المالك سيستفيد من:
• استعادة حريته في التصرف في ملكه.
• تحقيق عائد عادل يتناسب مع قيمة العقار وموقعه.
• تشجيع الاستثمار في صيانة وتجديد العقارات القديمة.
• تنشيط السوق العقارية في المناطق المجمدة لعقود.
• إنهاء آلاف النزاعات القضائية المتراكمة بسبب هذا الملف.
تخوفات وخسائر المستأجرين:
رغم عدالة مطلب المالك، إلا أن هناك تخوفات حقيقية لدى قطاع من المستأجرين، منها:
• فقدان المسكن دون وجود بديل ملائم، خاصة لكبار السن.
• عدم القدرة على تحمل الإيجارات الجديدة بعد التحرير.
• الانتقال القسري إلى أطراف المدن مع ضعف الخدمات.
• غياب الضمانات الحكومية لعدم التشريد في حال تطبيق القانون بشكل مفاجئ.
الحلول المقترحة:
لحل الأزمة بعدالة دون ظلم لأي طرف، يُقترح ما يلي:
1. تحرير تدريجي للإيجارات القديمة خلال فترة انتقالية من 5 إلى 7 سنوات.
2. تحرير فوري للوحدات غير السكنية مثل المحال التجارية والمكاتب.
3. قصر الامتداد القانوني على المستأجر الفعلي فقط دون توريث تلقائي.
4. إتاحة التملك الاختياري للمستأجر القادر وفق تسعير عادل.
5. إنشاء صندوق دعم للمستأجرين غير القادرين، تموّله الدولة والمجتمع.
6. توفير وحدات بديلة في مشروعات الإسكان الاجتماعي.
7. إصدار قانون جديد شامل ينظّم العلاقة الإيجارية ويُحقق التوازن بين الطرفين.
الرحمة قبل العدل
تطبيق القانون بنصوصه وحده لا يكفي، حتى وإن كان حقًا واضحًا. فالأمر ليس مجرد مادة دستورية أو حكم قضائي، بل قضية تمس حياة الناس، واستقرار الأسر، وكرامة المواطن.
لا نريد أن نرى شيوخًا يُطرَدون من بيوتهم، ولا أن تُرمى الأرامل في الشوارع باسم “استرداد الحق”.
وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها، بتوفير سكن بديل للمستأجرين غير القادرين، بأجور رمزية. فهذا واجب اجتماعي أصيل، لا منّة فيه.
إن القوانين العادلة لا تُقاس بصرامة النصوص، بل بقدرتها على إنصاف الإنسان دون أن تدهسه.
وما من حق يُستعاد إذا هُدمت لأجله البيوت، أو انكسرت فيه القلوب.
في هذا الملف المعقد، لسنا بحاجة إلى منتصر ومهزوم، بل إلى عقلٍ يُنصف، وقلبٍ يحنو، وقانونٍ لا يُقيم العدل على أنقاض الضعفاء.
فليُعد الحق إلى أهله، نعم، ولكن بميزان الرحمة قبل سوط الحسم، وبوعيٍ يدرك أن العدالة لا تكتمل حتى يشعر بها الجميع… لا طرفٌ واحد.