في لحظة واحدة، تحوّلت فاجعة إنسانية إلى ساحة تراشق طائفي، وتحوّل الألم إلى غضب، والبحث عن العدالة إلى منابر للفرقة. فقد كانت حادثة الطفل ياسين – التي هزّت الضمير المصري – أكثر من مجرد جريمة هتك عرض مؤلمة، إذ تحولت إلى مرآة عاكسة لحالة من هشاشة الوعي وخطورة التعميم وسرعة الانزلاق إلى التناحر الطائفي.
ولأن الجريمة وقعت في لحظة مؤثرة، فقد كان من الطبيعي أن تهتز مشاعر الناس، لكن المؤسف أن بعض ردود الأفعال خرجت من دائرة الحزن المشروع إلى فضاء الاستقطاب الطائفي المدفوع بالخوف أو الرغبة في تسجيل موقف، وكأننا نبحث عن “ديانة الجاني” أكثر مما نبحث عن دوافع الجريمة أو تفاصيلها أو تداعياتها. وهو أمر، إن تُرك بلا وعي، كفيل بأن يُدخِل المجتمعات في نفق مظلم لا تخرج منه إلا مثقلة بالجراح والانقسام.
ومن هنا، كان لا بد أن نُذكّر بقاعدة راسخة ينبغي أن تُكتب بحروف من نور: لا يجوز شرعًا، ولا عقلًا، ولا قانونًا، تحميل ديانة بأكملها ذنب فردٍ أخطأ. فالله تعالى يقول: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”. وإذا بنا نُحمّل معتقدات الناس وزر فعل واحد منهم، فإننا لا نُحقق عدالة، بل نهدم أسسها، ونرتكب – باسم الغضب – جريمة أكبر من الأولى.
بل إن محاولة الربط بين الجريمة والانتماء الديني، لا تُسيء فقط إلى جوهر العدالة، بل تفتح أبوابًا واسعة للفتنة، وتمهّد الطريق لعقلية التعميم، وتُحيل المجتمع إلى معسكرات شك وخوف. والحق أن الديانات السماوية جاءت لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، لا لتكون أداة اتهام جاهزة عند كل نازلة.
ولذلك، حين تتكرر محاولات تفسير الجرائم بخلفية طائفية، فإننا لا نكون بصدد تحليل جنائي، بل نصنع بأيدينا مناخًا عدائيًا هشًّا، يمكن أن يشتعل في أي لحظة. فالطائفية، في حقيقتها، لا تصنعها الأديان، بل تنمو في بيئة العقول المغلقة، والتنشئة المشوّهة، والخطاب العام الملوّث بالمكايدة والتحريض.
وإذا كانت الأديان ترفض الفتنة، فإن التوظيف الخاطئ للدين قد يجعل من الجريمة بذرة كراهية، بدلاً من أن تكون لحظة وعي وعدالة. ومن هنا، يجب أن نتعامل مع كل حادثة مؤلمة باعتبارها محنة إنسانية، لا منطلقًا للاتهام الجماعي أو الشماتة أو التهييج.
لماذا تتحوّل الجريمة إلى فتنة؟
حين نتابع كيف تتحوّل بعض الجرائم الفردية إلى أزمات طائفية حادة، ندرك أن الأمر لا يتعلق بالجريمة ذاتها بقدر ما يتعلق بالسياق الثقافي والاجتماعي المحيط بها. فهناك مجموعة من الأسباب المتراكبة تُحوّل الألم إلى انقسام، والحزن إلى صراع، منها:
- • هشاشة الوعي المجتمعي، وسرعة الانفعال، وعدم القدرة على التمييز بين الفرد والجماعة.
- • الانحراف بالاهتمام نحو ديانة الجاني بدلًا من التركيز على حيثيات الجريمة، ودوافعها، وضحيتها.
- • التوظيف الخاطئ للدين، حين يُستدعى في غير موضعه ليكون أداة للمكايدة بدلًا من أن يكون مصدرًا للرحمة.
- • العقول المغلقة، والتنشئة المختلّة، والخطابات الإعلامية الملوّثة، التي تُربّي على الانقسام لا على العدل.
- • غياب الخطاب الديني والإعلامي الرشيد الذي يستبق الأزمة ويوجّه الناس نحو الفهم والتماسك.
- • استغلال بعض القوى أو الأفراد للجريمة سياسيًا أو طائفيًا، لفرض سرديات الكراهية وزرع الشكوك.
- • انفلات منصات التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى ساحات ثأر لغوي وتحريض طائفي يسبق التحقيق ويُجهض الوعي.
إن هذه الأسباب لا يمكن علاجها بردود أفعال وقتية، بل تحتاج إلى بناءٍ طويل النفس في التعليم، والإعلام، والخطاب الديني، والتربية الأسرية.
ولا شك أن فجيعة الطفل ياسين كسرت قلوبنا جميعًا، غير أن الأشد إيلامًا من الجريمة ذاتها هو أن تُستغل سياسيًا أو طائفيًا، فتُنسى المأساة، وتُستحضر الهُويات. ومن المؤسف أن البعض لا يبحث عن العدالة، بل عن فرصة للصراع، ولو على جثة براءة.
وقد رأينا في حادثة كنيسة القديسين عام 2011 كيف حاول البعض أن يصنع منها شرارة للفتنة، لكن تلاحم المصريين حينها، ووقوف المسلمين بجوار إخوانهم المسيحيين في الجنازات والصلوات، كان مشهدًا أبطل مفعول الكراهية، وأثبت أن وعي الشعب أقوى من الفتنة إذا وجد من يحتضنه ويوجهه.
ولم تكن تلك المحاولة الوحيدة لإشعال الفتنة، فقد حاول بعض المتأسلمين بعد ثورة 2011 التلاعب بمشاعر الناس وإيقاد نار الطائفية من خلال الاعتداء على بعض الكنائس، كما حدث في منطقة المرج، وتكرّرت هذه المحاولات الخبيثة بعد ثورة 30 يونيو 2013، حين تعرّضت عدة كنائس في محافظات مختلفة للحرق والتخريب.
لكن الوعي الوطني تغلّب على مخططاتهم، وكان الموقف التاريخي لقداسة البابا تواضروس الثاني تجسيدًا لهذا الوعي، حين قال كلمته المضيئة: “وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن”، ليغلق الباب أمام الفتنة، ويمنعها من التسلل إلى النفوس، ويُثبت أن الأمن المجتمعي لا يُبنى بالثأر بل بالحكمة والتسامح. لقد أطفأ بنور بصيرته نارًا أرادها البعض أن تشتعل، فكان صوته صوت وطن، لا صوت طائفة.
لذلك، فإن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسات الدينية التي ينبغي أن تتحرك بصوت موحّد، لا ليُدين الجريمة فقط، بل ليقول بوضوح إن الدين ليس طرفًا في الجريمة، وإن الطائفة لا تتحمّل ذنبًا لم تقترفه. فإن تأخّر الخطاب الرشيد، تسلّل إليه صوت الفتنة، وملأ الفراغ بالمبالغة والتأويل والافتراء.
ومن أجل ذلك، نحن بحاجة إلى خطاب ديني مختلف، لا يخاطب النخبة وحدها، بل ينزل إلى الناس بلغتهم، يفهم واقعهم، ويستوعب مشاعرهم، ويتعامل مع العصر بمنطقه وآلياته. الخطاب الذي لا يحضر في المنصات الرقمية ولا يصل إلى عقول الشباب، يترك الساحة خالية لمن يصنعون من كل حادثة منصة للكراهية.
ولا تنفصل هذه المسؤولية عن دور الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام، فكلها جبهات مشتركة في معركة التوعية. علينا أن نربّي أبناءنا على أن الجريمة لا دين لها، وأن الخير والشر سلوك إنساني، لا يحدده المعتقد بل الضمير.
وهنا لا يسعني إلا أن أوجّه نداءً صادقًا إلى رجال الإعلام وصنّاع المحتوى: اتقوا الله في وطنكم. لا تبحثوا عن “التريند” على جراح الناس، ولا تجعلوا من المنصات جسورًا للفتنة. فالكلمة مسؤولية، ومنبر الإعلام إما أن يُداوي أو يُدمّر. فليكن صوتكم للحق، لا للانقسام، وللبناء، لا للهدم.
كما أن ما شهدناه على منصات التواصل الاجتماعي من ترويج للكراهية وبثّ للشائعات كان في حد ذاته ظاهرة أخطر من الجريمة الأصلية. لقد صار بعض المستخدمين – من حيث لا يشعرون – شركاء في زرع الفتنة، وإعادة تدويرها، ونقلها من جريمة إلى موجة غضب طائفي.
وهنا، لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي. فالمجتمع لا يقوم بالشعارات وحدها، بل بحاجة إلى قانون صارم يُحاسب من يُحرّض، أو يُثير، أو يُهدّد نسيجه الوطني. فإن لم نفعّل أدوات الردع في وجه العابثين، خسرنا ما تبقّى من استقرارنا الأخلاقي.
الدروس التي ينبغي أن نخرج بها من أزمة ياسين:
- الجريمة تُحاسب كفعل فردي لا كهوية جماعية
لا يجوز ربط الجريمة بدين الجاني. العدالة تستند إلى الفعل لا إلى الانتماء، وإلا سقط ميزانها.
- الطائفية ليست ناتجًا دينيًا بل خللًا مجتمعيًا
الفتن لا تنبع من النصوص، بل من خطاب مشحون، وتربية مختلّة، وقصور في الوعي الجماعي.
- الغضب لا يبرر إشعال الفتنة
التعاطف واجب، ولكن الكراهية الجماعية ظلم. فليكن الغضب بوابة إصلاح، لا بابًا للانقسام.
- لا عدالة بلا إنصاف، ولا إنصاف مع التعميم
من يختزل الجريمة في ديانة الجاني يهدم جوهر الإنصاف، ويزرع بذور الفرقة.
- المؤسسات الدينية مطالبة بخطاب موحد وفاعل
وحدة الصوت بين الأزهر والكنيسة ضرورة وطنية تسبق الفتنة وتغلق أبوابها.
- الإعلام والتعليم والأسرة جبهة التوعية الوطنية
لا بد من خطاب إنساني يُربّي على احترام الإنسان بوصفه إنسانًا، لا كعنوان لطائفة.
- وسائل التواصل مسؤولية أخلاقية لا ساحة للثأر
كل منشور مشحون بالكراهية هو رصاصة طائشة في صدر المجتمع.
- القانون هو الحارس الأخير للسلم المجتمعي
لا مفر من تفعيل القانون ضد المحرّضين على الكراهية، حفظًا لوحدة الوطن وأمان الناس.
وفي الختام أقول
إن حادثة ياسين لا يجب أن تمرّ كغيرها. لا يكفينا أن نطالب بالقصاص، بل يجب أن نتوقف ونسأل:
- • كيف وصلنا إلى هنا؟
- • من سمح بإدخال الدين في الجريمة؟
- • من تواطأ بالصمت أو شارك في التأجيج؟
- • وما الذي يجب أن نغيّره حتى لا يتحول كل حادث فردي إلى فتنة طائفية جديدة؟
لقد آن الأوان أن ندرك أن الوطن لا تحميه القوانين وحدها، بل تحميه العقول الواعية، والقلوب المتراصة، والإرادة الجامعة على الحياة المشتركة.
وإذا كانت هذه الجريمة قد هزّت الوجدان، فلتكن يقظتنا بعدها يقظة وعي لا يقظة كراهية، ويقظة وطن لا يقظة طائفة. وليكن ردّنا الحقيقي هو بناء مجتمع يعرف كيف يرفض الجريمة دون أن يُشعل حربًا، وكيف يطلب العدالة دون أن يهدم الجسور بين أبنائه.
فلنكن جميعًا على قدر هذه اللحظة:
كن صانع وعي، لا صانع أزمة. وكن حائط صدّ في وجه الفتنة، لا أداة لها.