جميع السفن الحربية الأجنبية، وكل السفن الأخرى التي تحمل اللاجئين، يجب أن تغادر الميناء ظهر يوم 10 يوليو.
إن الإهمال الوحشي من البريطانيين لحياة مواطني الجنسيات الأخرى سبب لي ولآلاف آخرين انزعاجًا مخيفًا، كما تسبب في مقتل العديد من الأوروبيين (فرنسيين، ألمان، نمساويين، إيطاليين). وكان عليّ أن أقرر في لحظة ما هي أفضل طريقة لتأمين سلامة زوجتي وبناتي، وهن على مسافة 120 ميلًا داخل البلاد. لم يكن هناك قطار متجه إلى القاهرة إلا في الثامنة صباح يوم 10 يوليو، وهو القطار الذي يصل إلى الإسكندرية الساعة الثالثة بعد الظهر، أي بعد ثلاث ساعات من مغادرة السفن التي تحمل اللاجئين (الأجانب الفارين من الحرب). لقد تخيلت أربع سيدات يصارعن في محطة السكك الحديدية في القاهرة للحصول على أماكن، وسط زحام الأوروبيين المذعورين، وليس لديهن إلا فرصة ضئيلة. وحتى إذا نجحن في الحصول على أماكن في عربات القطار، فمن المحتمل بدرجة كبيرة أن يُخلي الجنود أماكنهن في أي نقطة على الطريق لحساب الجنود المتجهين إلى المدينة المهددة. وحتى إذا نجحن في الوصول إلى الإسكندرية، فلن تكون السفن هناك لاستقبالهن، ولن أستطيع أن أجد لهن مكانًا آمنًا في مدينة توشك أن تنهال عليها القذائف. أسرعت إلى مكتب التلغراف وأرسلت رسالة إلى ضابط كبير في رئاسة الأركان المصرية بالقاهرة، أخبرته فيها بأن البريطانيين على وشك الهجوم، وأنني مستمر في موقعي، وأترك مصير أسرتي لشرف رئاسة الأركان. لقد كان وضعًا يائسًا، ولكن قراري كان سليمًا، لأن العائلات التي غادرت القاهرة في الثامنة صباحًا يوم 10 يوليو وصلت متأخرة، فلم تستطع الصعود إلى السفن، وتعرضت لرعب عمليات القصف.
في صباح اليوم التالي، أخذت ابني (وكان موجودًا معي) إلى ظهر المدمرة لانكستر، وبقلب مملوء بالقلق عدت لأداء دوري إلى جانب الخديوي توفيق، بكل ما استطعت من الهدوء الممكن. وخلال يوم 9 يوليو، امتلأ قصر رأس التين بمسؤولين أوروبيين على مستوى عالٍ، منهم مدير البريد البريطاني، ومدير الجمارك البريطاني، والموظفون الكبار للإدارات المختلفة، الذين كانوا يتناولون في هدوء طعام العشاء في مدينة مهددة بالدمار، ويتبادلون الرأي بسخرية حول الأثر المحتمل لتمرين المدافع الثقيلة المتوقع من الأسطول البريطاني. لم يكونوا بالطبع يفكرون أو يهتمون بمصير النساء والأطفال من جنسيات أخرى غير البريطانيين في الداخل، إذ تم إبعاد كافة الرعايا البريطانيين.
في يوم 10 يوليو، لم يتبقّ حول الخديوي سوى خمسة مسؤولين غربيين في قصره – أمريكي وأربعة إيطاليين – كنتُ أنا واحدًا، وإيطالي يتولى منصب أدميرال، وآخر طبيب معاليه، وثالث سكرتيره، والرابع رئيس البروتوكول. هؤلاء الخمسة، ومعهم مجموعة قليلة من الأتراك، والأرمن، وضباط ومسؤولين مصريين، كل هؤلاء يمثلون بطانة الخديوي خلال القصف والأيام الثلاثة التالية، التي تم خلالها محاصرة قصر الرمل بالقوات التي أُرسلت لإحراقه وإطلاق النار على كل من يحاول الفرار.
بعد ذلك جاء الاحتلال البريطاني للإسكندرية، ثم الحملة ضد عرابي. وخلال هذه الحملة قمت بكل ما يمكنني عمله لمساعدة حلفاء الخديوي، وأنا أعلم في ذلك الوقت أن هذا هو واجبي، إلا أن تنفيذ هذا الواجب يومًا بيوم، وفعلًا بفعل، أضاف بالضرورة إلى المخاطر التي تحيط بأسرتي في عزلتها، لأنه في موقعي إلى جوار الخديوي، فإن كل فعل كان معروفًا ومثيرًا لأعداء الخديوي.
وقد استمر هذا الوضع بالنسبة لي ولعائلتي حتى يوم 8 أغسطس، عندما سعدت بلقائهم أخيرًا على متن سفينة “الدقهلية” في ميناء بورسعيد. وهذه النهاية السعيدة يرجع الفضل فيها إلى القائد وايتهيد في الأسطول الأمريكي، الذي لم يشأ أن يتحمل مسؤولية أن تكون أسرة أمريكية في خطر، ووافق بسرعة على طلبي أن يدخل قناة السويس، وفي الإسماعيلية طالب السلطات المصرية أن تُحضر الأسرة هناك وتُسلَّم له على متن السفينة الأمريكية “كوينباوج”، وتم اتخاذ اللازم لإخبار عرابي، الذي تصرّف بمروءة من نفسه، حتى قبل أن يصله الطلب من الحكومة الأمريكية.
لو كان أدميرال سيمور (القائد البريطاني) قد أعطى إنذارًا لمدة 48 ساعة قبل قصف المدينة، لكان قد أعفى نفسه من المسؤولية التاريخية الخطيرة التي يتحملها الآن، بالتسبب في قتل رجال ونساء وأطفال أوروبيين، أولئك الذين قُتلوا في المدن الداخلية، وكذلك مسؤولية مقتل مئات المصريين من النساء والأطفال الذين ماتوا بسبب هذا القصف، وبسبب الهروب الفوضوي من المدينة تحت القصف.
أثناء ما يسمى “بمذبحة” 11 يونيو 1882 في الإسكندرية، تم ضرب رجال أوروبيين بواسطة الأهالي الغاضبين، إلا أنهم لم يتعرضوا لأي طفل أو امرأة أجنبية. بينما، وعلى العكس من ذلك، فإنه أثناء القصف المسيحي للإسكندرية، قُتلت أعداد من النساء والأطفال المصريين، إذ قام أزواجهن وأشقاؤهن وآباؤهن بأخذ ثأرهن لاحقًا من الأوروبيين الأبرياء المساكين في طنطا والمحلة الكبرى.
تلك كانت شهادة الأب، الجنرال الأمريكي المرتزق في مصر، وهي التي تُعطي لمحة بسيطة عن وحشية الغازي البريطاني الذي قصف الإسكندرية على رؤوس أهلها من المدنيين، بخلاف ما قام به القائد المصري البطل أحمد عرابي، الذي بادر بإنقاذ أسرة ذلك الجنرال الأمريكي، والذي تكشف شهادته كذلك مدى التدني الذي وصل إليه حاكم مصر آنذاك، إذ وقف في شرفة قصر رأس التين وحوله بطانته من الأجانب، يتطلّع إلى ما تُحدثه مدافع الأدميرال سيمور البريطاني من دمار وقتل في مدينة الإسكندرية.