كان نجاح عبور القوات المصرية صدمة ليس فقط لأجهزة الأمن الإسرائيلية ، وإنما لنظيرتها الأمريكية ، وبمرور الوقت ، وتأكد تفوق القوات المصرية ، واستمرار نزيف القوات الإسرائيلية ، كان من الواضح أن كيسنجر خلال فترة العمليات العسكرية كلها يحرص علي السيطرة الكاملة علي بيئة التفاوض ، وكانت القنوات السرية هي إحد وسائله لذلك ، وأبرزها تلك القناة التي ترتبت علي سياسة الوفاق مع الإتحاد السوفييتي ، وكان طرفاها كيسنجر / اناتولي دوبرنين السفير السوفييتي في واشنطن.
وكذلك حافظ كيسنجر علي استمرار قناة الإتصال السرية مع مصر ، وهي القناة التي بدأت بينه وبين حافظ إسماعيل قبل العمليات العسكرية.
ورغم أن القناة المصرية كانت في البداية لا تمثل أمراً هاماً بالنسبة لكيسنجر ، إلا أن أهميتها تزايدت خاصة مع إكتشاف إنكسار الجيش الإسرائيلي وخسائرة الضخمة علي الجبهتين السورية والمصرية ، وأدرك كيسنجر أهمية الحفاظ علي حياة تلك القناة بهدف الإلتفاف علي الدبلوماسية السوفييتية التي كانت لا تزال تتحرك بحذر خشية تهديد المكاسب التي تحققت بناء علي سياسة الوفاق.
ومن ناحية أخري كان كيسنجر يناور لتثبيت حركة الدبلوماسية المصرية ، وفي نفس الوقت تفادي بروز سلاح البترول .. وقد كان ذلك كله بشكل مدهش يتماشي أيضاً مع توجهات السادات التي أتضح منذ البداية أنها تسعي لدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلي الإشتباك بشكل إيجابي للمساعدة علي تحرير الجزء المتبقي من سيناء عن طريق الضغط الدبلوماسي الأمريكي على إسرائيل .
وفي هذا الإطار ، كانت رسالة كيسنجر إلي حافظ إسماعيل يوم 15 أكتوبر ، فارغة لا تحمل أي إجابات للأسئلة التي وجهتها مصر ، بل مجرد حقنة مخدر أخري لضمان إستمرار عمل تلك القناة السرية ، ولتخفيف رد الفعل العربي المحتمل عندما يتم الكشف عن ضخامة الجسر الجوي الذي كان ينقل إلي إسرائيل أطنان من المعدات والذخائر والأسلحة ، قال عنها وزير الدفاع الأمريكي أنها ” أضخم عملية نقل جوي عبر التاريخ !! ” .
وجاء رد حافظ إسماعيل علي الفور ، مطمئناً لكيسنجر ، فهو من ناحية يؤكد حرص مصر علي مواصلة التواصل عبر تلك القناة السرية ، ومن ناحية أخري يؤكد أن لا أحد يتحدث بإسم مصر ( وذلك – كما فهم كيسنجر علي الفور – يعني التحييد الدبلوماسي للإتحاد السوفييتي ، في الوقت الذي كانت أمريكا تلقي بكل ثقلها الدبلوماسي والعسكري خلف إسرائيل ).
والأهم أن رسالة حافظ حملت إعادة ترديد للموقف المصري من ربط وقف إطلاق النار بإعلان إسرائيل استعدادها للانسحاب من كامل الأراضي المحتلة ، مع الاستعداد للموافقة علي إنهاء حالة الحرب مباشرة بعد تمام الانسحاب الإسرائيلي .
ولكن كيسنجر كان يناور بهدف إتاحة الفرصة للجيش الإسرائيلي أن يستفيد بالمعدات العسكرية الحديثة التي أرسلتها أمريكا علي عجل ، كي يتم تعديل الموقف في جبهات القتال ، رغم علم كيسنجر أن مصر ” ليس في نيتها توسيع نطاق الهجوم ، أو تعميقه بأكثر مما تحقق بالفعل ” ، كما جاء في الرسالة الخطيرة التي أرسلها حافظ إسماعيل عبر القناة السرية صباح يوم 7 أكتوبر ، أي اليوم التالي مباشرة للعبور .
ورغم اتضاح مدي انحطاط المناورة التي يقوم بها كيسنجر ، لدرجة أن معلومات الإستطلاع كانت تصل لإسرائيل لحظة بلحظة ، بما يهدد بتدمير الجيشين الثاني والثالث ، إلا أن ضبابا كثيفا كان يغلف مركز اتخاذ القرار المصري ، بحيث لم يعد لديه سوي القبول بالوعود الغامضة لكيسنجر ، بينما تكشف الوثائق الآن خديعته الكبري التي اجهضت ما كان يمكن أن يكون نصرا حاسما للعرب..