لطالما كانت أغاني الثمانينات والتسعينيات محط إعجاب وتقدير من قبل الكثيرين، وأنا من بينهم. فقد وجدت نفسي منجذباً إلى أغاني تلك الفترة الغنائية، التي شهدت نضجاً فنياً غير مسبوق على مستوى الكتابة الغنائية، حيث برز العديد من الشعراء والملحنين والمغنين الذين أثروا الموسيقى العربية بأعمالهم الرائعة، وخلدوا أسماءهم في ذاكرة الأجيال.
أغاني تلك الفترة كانت تعبر عن مشاعر وأفكار الجيل الذي عاش فيها، وتجسد آماله وآلامه، وتطلعاته وانتكاساته. ومن بين الأغاني التي أثرت فيّ بشكل كبير، أغنية “لحظة غروب” للشاعر هاني شحاتة، التي أظهر فيها براعة فائقة في استخدام الرمز لتصوير معاناة جيل بأكمله، جيل كان يحلم بالتغيير والحرية، ولكن وجد نفسه محاصراً بالقيود والاستبداد.
في أغنية لحظة غروب، نرى كيف استطاع الشاعر أن يعبر عن مشاعر القهر واليأس التي شعر بها جيله بعد أن ضاعت أحلامهم السياسية، وتآمرت عليهم قوى الظلام والاستبداد. يستخدم الشاعر في الأغنية الرمز لوصف الوطن/الحبيبة التي تغيرت ملامحها بفعل الساسة الذين استولوا عليها، وغيروا ملامحها وجعلوها نسخة رديئة من سياساتهم الانهزامية الخائنة.
يقول الشاعر: “تاهت ملامحك بين إيديه”؛ ليوضح كيف أن هؤلاء الساسة قد دمروا الوطن، وسرقوا أحلامه. كما يستخدم الشاعر الرمز في قوله: “والموج يدوب.. بيشد قرص الشمس ويشد القلوب” لوصف الهزيمة الحتمية في مواجهة التحديات، وكيف أن الموج العاتي/السلطة استطاع أن يشد قرص الشمس/الحقيقة فتلاشى الأمل وغاب نور المعرفة، فاستطاع أن يشد إليه قلوب الأكثرية من العوام.
هذا الرمز يعبر عن شعور الشاعر باليأس من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاده، والتي كانت تتسم بالفساد والاستبداد والظلم. ورغم عشقه الشديد لوطنه، إلا أن طريق النضال كان مليئاً بالذنوب/الأخطاء التي أودت به إلى هذا المصير.
ويشرح الشاعر أسباب هزيمته، وأول هذه الأسباب وأهمها هو امتلاك غريمه للدهب/البترول الذي فرض ثقافته الصحراوية على وطن الزهور. وبنى قصراً لينعزل عن البسطاء الذين لا يسكنون القصور ولا يحتمون بها، ولكنهم يحفظون كل غالٍ ونفيس عندهم في قلوبهم.
ورغم قسوة هذا الواقع، إلا أن الشاعر بث فينا الأمل حين وصف لحظة الفراق بأنها لحظة غروب، ولم يصفها بأنها لحظة موت؛ لأن الموت يعقبه بعث يوم القيامة، لكن الغروب كل ليلة يعقبه شروق الشمس كل يوم. هذا الرمز يعبر عن أمل الشاعر في أن يأتي يوم جديد يحمل معه الأمل والتغيير، ويجلب معه الحرية والعدالة والمساواة.
الأغنية من تلحين الموسيقار صلاح الشرنوبي، الذي استطاع أن ينسج لحناً جميلًا يرافق كلمات الشاعر هاني شحاتة، ويعبر عن عمق المعاني والموضوعات التي تطرحها الأغنية، وغناء علي الحجار، الذي أضفى بصوته الدافئ لمسة من الشجن والعمق على الأغنية.
وقد استطاع هؤلاء الفنانون أن يخلقوا عملاً فنياً رائعاً يعبر عن مشاعر وأفكار جيل بأكمله، جيل كان يحلم بالتغيير والحرية، ولكن وجد نفسه محاصراً بالقيود والاستبداد. في لحظة غروب، نرى كيف أن الشاعر هاني شحاتة قد أجاد في تصوير معاناة جيله الذي شعر بالقهر وهو يرى أحلامه السياسية تضيع، وتآمرت عليه قوى الظلام والاستبداد، فكانت الأغنية تعبيراً صادقاً عن مشاعر وأفكار ذلك الجيل.
الأغنية تعبر عن صرخة جيل بأكمله، وتجسد مشاعر اليأس والأمل التي شعر بها الكثيرون في تلك الفترة، فكانت تعبيراً عن آمالهم وآلامهم، وتطلعاتهم وانتكاساتهم. إنها أغنية خالدة، ستظل تعبر عن مشاعر وأفكار الأجيال المتعاقبة، وستظل محفورة في ذاكرة الزمن، تذكرنا بمعاناة جيل بأكمله، وتجعلنا نفكر في أهمية الحرية والعدالة والمساواة.
قد يرى البعض أن هذا التحليل النقدي يلوي عنق المعاني ليقدم تفسيراً غير موجود، ولكن الإطلاع على الكلمات الأصلية للأغنية، والتي أصرت الرقابة على حذفها، وكادت تضيع لولا شجاعة الفنان علي الحجار، الذي غنى الأغنية بكلماتها الأصلية في ساقية الصاوي، بعد ثورة يناير، يؤكد ما ذهبنا إليه في تفسير النص الغنائي. فالشاعر هاني شحاتة في النص الأصلي يقول:
“كانت خدودك وقتها متزوقة
أحمر بلون الشمس لون دمى البرئ
والطرحة مفرودة لقلبى مشنقة
وأنا بانطوى جوه الألم واطوى الطريق”.
وهنا نرى كيف استطاع الشاعر أن يرسم صورة رائعة تعبر عن حالة من الألم واليأس، ولكن ما يثير الدهشة هو اعتراض الرقابة على كلمة “المشنقة”، والتي رأت أنها مفردة غير غنائية.
والحقيقة أن الرقابة اعترضت على الصورة التي رسمها الشاعر لعلم مصر في هذه الأبيات، فجعل الأحمر لون دمه والأبيض الطرحة/ كفنه بعد موته والأسود لون تراب مصر / الطريق الذي يطوي جراحه. إنها صورة مؤثرة تعبر عن حالة من الحزن والأسى، وتجسد مشاعر الشاعر تجاه وطنه.
وإذا كانت الرقابة قد اعترضت على مفردة “المشنقة” وأصرت على حذفها؛ لأن المشنقة أداة عقاب للمذنبين وليس للمحبين، فإن الشاعر في جزء آخر محذوف من الأغنية أقر بذنبه، واعترف بجريمته، وجريمته هي أنه أخلص في حب مصر. يقول الشاعر هاني شحاتة:
“وإن الدفا
عندى يكون جوه القلوب
مش جوه قصر
ضاع الوفا
وأنا ما ارتكبتش م الذنوب
غير حب مصر
ما اقدرش زيه ف يوم أفارق أرضها
ما اقدرش اتاجر مرة واحدة بعرضها
ما اقدرش اخونها لأنى لو يوم خنتها
لازم ح اخونك وارتكب كل الذنوب”.
وهنا نرى كيف استطاع الشاعر أن يعبر عن حبه الشديد لوطنه، وعن استعداده للتضحية من أجلها. إنها كلمات تعبر عن حالة من الإخلاص والوفاء، وتجسد مشاعر الشاعر تجاه وطنه. إن هذا الجزء المحذوف من الأغنية يضيف بعداً جديداً للنص الغنائي، ويجعلنا نفهم أكثر مشاعر الشاعر ودوافعه.
إن دور الرقابة على الإبداع يثير الكثير من التساؤلات حول دورها في المجتمع، وهل يجب أن تكون لها سلطة على الفن والإبداع؟ أم يجب أن تترك الحرية للفنانين ليعبروا عن آرائهم ومشاعرهم بكل حرية؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة للنقاش، وتجعلنا نفكر في أهمية الحرية والإبداع في المجتمع..