ده مش عنوان إحدى قصص تان تان اللي كنت مولع بيها وانا صغير، هذا الصحفي الشاب ذو قصة الشعر المميزة وكلبه ميلو وصديقه الكابتن هادوك، وربما تكون السبب في حبي للصحافة – قبل أن اكتشف إنها قصص تمجد استعمار دول العالم النامي والعنصرية وتحارب العدالة الإجتماعية – لكن أوعدكم إن اللي ها تقروه لن يقل إثارة عن قصص المغامرات تلك، وبالمرة سيكون صفعة لمزوري التاريخ ولصوص الحضارات من مختلف المشارب.
تجار الآثار موجودين من قديم الأزل، حتى من عصر الفراعنة نفسهم، ومن هنا تفنن الفراعنة في إخفاء مقابرهم ووضع الفخاخ والشراك للصوص، زاد عليهم لصوص الحضارات ودول مش بيسرقوا دهب وتماثيل زي الأولانيين، لكن بيسرقوا تراثك وتاريخك وإنت قاعد، ودول منهم الأفروسنتريك اللي بينسبوا حضارة المصريين القدماء لشعوب ما تحت الصحراء الكبرى، أو اليهود اللي بيزعموا انهم اللي بنوا الاهرامات بالسخرة وهم عبيد عند المصريين، زاد عليهم فئة ثالثة ودي فئة لا بتفيد ولا بتخلى من التفاهة، فئة بتشكك في إن المصريين هم اللي بنوا الاثار الشامخة وبترجح عليهم حضارات اخرى مجهولة أقدم أو ربما كائنات فضائية، ومنهم للأسف محسوبين علينا مصريين، لكنهم في الحقيقة مجرد ببغاوات بتاخد كوبي بيست من كلام جراهام هانكوك وبينسبوه لنفسهم من اجل الترافيك والشهرة والعائد المالي.
تصور مركب تحمل حجرين ضخمين
وهنا ييجي دور المفتش ميرير، وهو ليس مفتش شرطة من روايات تان تان زي ما قلت، لكنه مفتش عمال من عصر قدماء المصريين، وتحديدا من عصر الملك خوفو – وبالمصرية القديمة مفتش تقال سيهيدج – لكن على الرغم من بعده الزماني عنا الا انه اجدع من المفتش كولومبو في كشف المدعين ومزوري التاريخ.
لم يقتنع مزوري التاريخ باكتشاف قرى العمال بناة الاهرامات في الجيزة، والكشف عن نظام الحياة والعمل والأجور والعلاج لديهم، بل ووجود نقوش على ظهر بعض أحجار الأهرامات بأسماء فرق العمال المتنافسة في بناء الهرم، مثل فريق اصدقاء الملك خوفو، بل ووجود خرطوش باسم الملك خوفو في حجرة فوق حجرة الدفن (حاول باحثين من جامعة دريسدن الالمانية سرقته في 2013)، بل لم يقتنعو بالنقوش المصرية داخل هرم أوناس، ويبدو ان هناك من العاملين والموظفين بمجال الاثار والسياحة مستفيدون من هذا الامر، فهم يرون ان اضافة هذه الخرافات المشوقة يجلب مزيد من السياح وبالتالي مزيد من الدولارات، اما الحقيقة فلا بواكي لها.
اثناء قيام بعثة مشتركة من السوربون وجامعة اسيوط والمعهد الفرنسي بحفائر في منطقة وادي الجرف (بين الزعفرانة وراس غارب) في سنة 2013 للتنقيب عن اقدم رصيف ميناء مصري (وربما في العالم)، كان يستخدم في عهد الاسرة الرابعة لجلب النحاس والفيروز من سيناء عبر خليج السويس، وربما يكون قد انشيء في عهد سنفرو، عثروا ايضا على مجموعة كهوف من صنع بشري استخدمت كمخازن معدات للسفن ولحفظ السفن المفككة لحين استخدامها مرة أخرى، احتوت الكهوف على عدد من لفائف البردي، منها لفائف تخص المفتش ميرير أحد مشرفي العمال في مشروع ضخم يسمى إيخيت خوفو او أفق خوفو (كلنا نتذكر مدينة أخيتاتون او افق آتون التي انشأها اخناتون) وكان هذا هو الإسم الأصلى لهرم خوفو ومجموعته، واللفائف عبارة عن يوميات العمل في بناء الهرم.
العالم الفرنسي بيير تاليه من جامعة السوربون ترجم البرديات وتم نشرها في عام 2016، تحديدا بردية Jarf A&B والتي تعد حاليا اقدم بردية معروفة، وهي أحسنهم حالة وهي مكونة من 30 لفيفة، لتحكي لنا كيف تم تقسيم العمال وعددهم كبير يصل الى 20 الفا الى فرق، كل فريق يتكون من 160 عامل، ثم ينقسم كل فريق الى 4 مجموعات من 40 رجل لكل مجموعة، ومنهم مجموعة المفتش ميرير، حيث كان يؤتى بالاحجار من منطقة طرة ثم تحمل على المراكب لتعبر النهر الى منطقة المشروع في يومين وتعود في يوم واحد بدون حمولة، تتضمن البرديات أيضا حركة نقل الغذاء للعمال من خبز ولحم وبيرة وحبوب سواء في ارض المشروع أخيت خوفو او محاجر طرة او المقر الاداري را شي خوفو. الفريق اللي بنتكلم عنه في هذه البردية اسمه “ثعبان كوبرا الملك خوفو في مقدمة المركب”، وهي تشير الى ان مقدمة مراكبهم ربما كان عليها تمثال للكوبرا الموجودة في تاج الملك كرمز للسيطرة.
يقول بيير تاليه الذي كان هدفه بالأساس مسح ساحل البحر الاحمر منذ سنة 2001 بحثا عن موانيء مصر القديمة للتجارة مع سيناء وأفريقيا، انهم كانوا محظوظين للعثور على تلك البرديات التي لم تكن لتعيش في منطقة الجيزة ولا في منطقة ممفيس حيث كان الارشيف الاداري الذي لم يتبقى منه اي شيء، بسبب طبيعة الجو في المنطقة، وحتى في منطقة البحر الأحمر فقد غرقت هذه الكهوف وتحللت كثير من البرديات في قاع الكهف اما هذه البرديات فنجت لانها طفت الى مكان عالي.
البرديات مكتوبة بالهيراطيقية، ولها اسم تاني وهو مدونات ميرير (بتفرحني كلمة مدونات دي)، وتعود للسنة 26 من حكم الملك خوفو او من 4500 سنة تقريبا، واطلق عليها العالم الامريكي مارك لينر مخطوطات البحر الأحمر تأثرا بمخطوطات البحر الميت، وتعد ربما اهم اكتشاف علمي أثري في القرن 21، وتعود اهميتها الى انها اول شهادة عيان لأشخاص حضروا بناء الأهرامات وليس مؤرخين كتبوا عنها بعد البناء بسنوات طويلة.
والمفتش ميرير كان يعمل لدى الأمير عنخ حاف وهو امير من الاسرة الرابعة ومدير المشروع وهو برتبة وزير، وعنخ حاف هو أيضا الاخ غير الشقيق للملك خوفو وابن الملك سنفرو صاحب الاهرامات الشهيرة في دهشور والفيوم واول ملك يتوصل لبناء الهرم المثالي، والبرديات المكتشفة تغطي فترة عمل عدة أشهر من يوليو الى نوفمبر بمعدل رحلتين او ثلاثة في الاسبوع، تنقل حوالي 200 حجر في الشهر.
ترجح النظريات استخدام فرع للنهر مندثر يسمى نهر خوفو لنقل الاحجار من طرة، حيث يقدر انه نقل عن طريقة حوالي 2 مليون حجر استخدمت في البناء. كما تذكر البرديات رحلات الى هليوبوليس لاحضار الأغذية للعمال باستخدام القوارب ايضا.
ممكن حد يسألني ليه وجدت تلك البرديات في منطقة البحر الأحمر على بعد 130 كم من الأهرامات، استنتاجي ان المفتش ميرير بعد نهاية عمله بالهرم ربما كان مسئولا عن فريق من عمال النقل او التنقيب عن النحاس في سيناء، الذي كان ضروريا لصنع ادوات النحت، خصوصا وان مشروع كبير مثل الاهرامات سيزيد الطلب على تلك الادوات، وانه كان مسئولا ربما عن توصيل الطعام للعمال ونقل خام النحاس الى المسابك المصرية لتصنيعه، تماما كما كان مسئولا عن نقل الاحجار من طرة الى موقع بناء الهرم.
وفي ما يلي مختارات مما دونه المفتش ميرير في مدونته
قمت بترجمته من الإنجليزية:
اليوم 3: الابحار من القصر الملكي اعلى النهر الى طرة والبيات هناك
اليوم 4: الابحار من طرة اسفل النهر في الصباح الى اخيت خوفو والبيات هناك
اليوم 6: الابحار من اخيت خوفو الى طرة
اليوم 11: المفتش ميرير يقضي اليوم مع فريقه ويقوم باعمال تخص المجرى المائي في رو شي خوفو
اليوم 17: رفع اكوام مخلفات الحفر في المجرى المائي
اليوم 25: المفتش ميرير يقضي اليوم مع فريقه في تحميل الصخور من طرة الجنوبية ويقضي الليلة هناك
اليوم 26: المفتش ميرير يبحر من طرة الجنوبية مع فريقه محملا بالاحجار صوب اخيت خوفو ويقضي الليلة في شي خوفو
اليوم 27: يبحر من شي خوفو نحو اخيت خوفو محملا بالاحجار ويبيت في اخيت خوفو
اليوم 28: يبحر من اخيت خوفو اعلى النهر نحو طرة الجنوبية
اليوم 29: المفتش ميرير يقضي اليوم مع فريقه في تحميل الاحجار من طرة الجنوبية ويبيت هناك
اليوم 1: مدير إيدجير يبحر من هليوبوليس محملا بالاغذية لنا بينما العمال في طرة
اليوم 2: المفتش ميرير يقضي اليوم مع فريقه في تحميل الاحجار من طرة الشمالية
اليوم 4: مدير إيدجير يعود من هليوبوليس محملا ب40 شوال من … وعدد ضخم من الخبز بينما يقوم العمال بتحميل الصخور من طرة
اليوم 23: المدير حيسي يقضي اليوم مع طاقمه البحري في رو شي خوفو لانه تم اتخاذ امر بالابحار ويقضي الليلة هناك
اليوم 24: المفتش ميرير يقضي اليوم مع فريقه في تحميل الصخور مع المسجلين في سجل الصفوة وفريق النبيل عنخ حاف مدير رو شي خوفو
اهمية تلك البردية ليس فقط ضحد المزاعم الموتورة حول بناء الأهرامات، وتوثيق تكنولوجيا البناء بدلا من الاعتماد على الاستنتاجات والاستنباطات الظرفية، بل هي ايضا بمثابة تسليط ضوء على الحياة اليومية للعمال في مصر القديمة واحتفالاتهم الدينية والبعد البشري لانجازات مصر القديمة، الى جانب الكشف عن مهارة المصري القديم ايضا في البيروقراطية وادارة الموارد واللوجسيتيات والادارة عموما.
