من أعجب القصص التي عشتها ولا أنساها

من الأحداث التي عشتها في طفولتي وظلت عالقة في ذاكرتي أنني ذات مساء قررت في لحظة طيش وقلة عقل أن أخوض أول مسابقة في السباحة في قريتنا، وقد كانت أول مسابقة سباحة في حياتي وآخر مسابقة.!
ولم تكن تلك المسابقة في مسبح كمسابح العالم بل في جرف كبير ممتلئ بمياه السيول، وكان غاية في القذارة كأنه نهر الغانج الذي يتبرك فيه الهندوس.!
كما كانت نهاية هذه المسابقة منيلة بنيلة ومطينة بطين، و"سودا كخافية الغراب الأسحم" على رأي الشاعر الجاهلي عنترة العبسي.
كان الناس يسقون في هذا الجرف مواشيهم عند الظهيرة، وفي المساء يتحول إلى مسبح للأطفال والمراهقين.
في ذلك المساء الأغبر قررت خوض ذلك السباق مع ولد كان يسبح بمهارة كأنه سمكة.!
لكنني عاندت وركبت رأسي وقررت التغلب عليه وانتزاع إعجاب الفتيات اللواتي يتفرجن علينا بعد أن أكل الجو منا.!
لقد تحدى الجميع فلم يقبل أحد وحينها قرح عرق الشجاعة والنخوة عندي وليته ما قرح.!
كنت أتفرج كغيري من المتفرجين كافي خيري شري لكنني فجأة قررت مواجهة التحدي بالتحدي وقبول المبارأة معه وحينها ألتفت الجميع إلي وقد ذهلوا من قبولي هذا الانتحار، وحين خلعت ثيابي بإستثناء الملابس الداخلية طبعا واستعرضت عضلاتي خرج الجميع وتركوا لنا الحلبة قصدي الجرف.!
ثم تأهب الجميع وأشرأبت الأعناق لمشاهدة السباق، وبعد ثواني من انطلاق الصافرة قفز الولد بسرعة وانطلق يسبح بمهارة فائقة فيما تذكرت حينها أنني لا أجيد السباحة.!
لقد تذكرت خيبتي وفشلي ولكن بعد فوات الأوان، فقد خرج الحمار إلى السوق كما يقال.!
المهم ياسادة يا كرام: ما كان مني إلا أن قفزت بكل غشومية وقلة عقل إلى الأسفل ثم ظهرت وحييت الجماهير الحاشدة كأي زعيم ثوري، وبدلا من أنطلق في السباحة طولا غطست إلى الأسفل مرة ثانية ثم ظهرت مستنجدا بالشعب هذه المرة، ثم كانت الغطسة الثالثة والأخيرة ولم أطلع بعدها.!
ومرت دقيقة كأنها سبع سنوات عجاف وأنا أغرق أغرق أغرق، وأيقنت بالموت وندمت ندم الكسعي لأنني فشرت وتسابقت مع ذلك الولد، وحاولت أن أصعد لكن رجلاي كانت قد غاصت في الطين اللزج ولم أستطع إخراجهما فتقيد جسمي ولم أعد قادرا على الحركة، وقبل أن ألفظ أنفاسي وأصبح شهيد الهبالة وقلة العقل فوجئت بيد قوية تسحبني إلى الأعلى لأخرج وأنا في الرمق الأخير.!
وبدلا من أن أنال الإعجاب والتصفيق كبطل سباحة دولي نلت السخرية وصرت أضحوكة، لقد كنت حينها أرتعش من البرد والخوف وفي حالة تصعب على الكافر، وشرع ذلك الولد الشهم الذي تحديته ثم أنقذني يدلي رأسي إلى أسفل ليخرج الماء القذر الذي دخل إلى معدتي.
ولم أنل الإعجاب بعد تلك الحادثة بل حصلت لي فجعة تاريخية وأصفر لوني، ولما علمت أمي بما حصل وفت الفورة وكملت الناقص وألهبت ظهري بالعصا حيث نلت علقة ساخنة معتبرة من يديها، كما تسلل إلى جسمي عدد لا يعلمه إلا الله من ديدان البلهارسيا التي ظلت ترتعي في جسدي لسنوات حتى شفيت منها بعد أن دخت دوخة الأرملة.!
وبعدها قررت ألا أقبل بأي تحدي وأن أمشي جمب الحيط، وأكتفي بالتفرج مع المتفرجين، ولكن لأن الشيطان شاطر وابن ستين كلب فقد نزغني ذات صباح لأن أخوض سباقا من نوع آخر.
سباق على ظهور الحمير كانت نتيجته كارثة أشد من الأولى وأنيل بكثير، ولهذا السباق قصة طريفة سأرويها لكم:
كنت قد عدت من المدينة _ حيث كنت أدرس_ إلى قريتنا كما يعود رائد الفضاء إلى كوكب الأرض، يروي مشاهداته وانطباعاته بفخر وإعجاب مفرط بالذات، وتحلق حولي أطفال القرية لأروي لهم مشاهداتي وانطباعاتي وهم فاغري أفواههم دهشة لما يسمعون من الأشياء العجيبة والغريبة التي لم يشاهدونها بعد!.
كنا بعد الحصاد في الوديان والناس يرعون مواشيهم في الحقول، وأنا مثل الطاووس مزهوا بنفسي وببذلتي الجديدة، وحينها أراد أحد الفتيان وقد استبد به الحسد أن يجعلني أضحوكة الوادي فزعم أنني قد " تمدنت " ولا أستطيع حتى ركوب الحمار، وتحداني أن أتسابق وإياه فوق الحمير، وقبلت التحدي ولو كنت أعلم بما سيحدث لي ما قبلت هذه المغامرة، ولكن كيف أنسحب والفتيان المريدين حولي والبنات يرمقنني بنظراتهن ؟!
لقد أردت أن أفشر أمام البنات وأفوز بإعجابهن وأظهر أنني ابن المدينة وبطل الريف أيضا.!
وبالفعل قربوا لي حمارا وامتطى الولد الآخر حمارا وبدأنا السباق، وكان الولد ماهرا في ركوب الحمار فسبقني ولكني لم استسلم وقد ضربت حماري بعصا غليظة فأسرع وكدت اسبقه، وكانت نتيجة الشوط الأول أننا تعادلنا فاستبشرت خيرا وعقدت العزم على أن اسبقه في الشوط الثاني.
وصفر الأطفال فانطلقنا كالفرسان على ظهور الحمير وكنا على توازي لكنه سبقني بلحظات ولدى العودة وعندما كنا في موازاة الفتيات يبدو أن حماري مل من هذه المسرحية السخيفة التي نمثلها فألقاني أرضا ثم عاد إلي ورفسني بقدميه عدة مرات ومزق بذلتي الجديدة التي عدت بها من المدينة وتركني أنزف دما ليتحول مهرجان السباق في المرعى إلى كارثة فقد غبت عن الوعي وحملوني وأنا في الرمق الأخير إلى البيت لتلقي العلاج الأولي.
وبقيت أسابيع وأنا أتوجع واتألم وأتوعد الحمار بالويل والثبور وعظائم الأمور، حيث عقدت العزم على قتله بعد أن مسح بكرامتي الأرض وجعلني أضحوكة للأطفال والبنات.
بعد أسابيع بدأت أمشي ببطء على عكاز باحثا عن الحمار لأنتقم لكبريائي فلم أجده، ومرت أشهر وسنوات وبقي في ذهني سؤال:
_ طالما قد ألقاني الحمار أرضا لماذا عاد ورفسني لمرات وبكل ذلك الحقد والغل ؟!
يبدو أنها مؤامرة قد حيكت ضدي، وأن ذلك الحمار المجرم قد تآمر مع ذلك الولد الحاسد.!!