ضاقت السبل لدى الكثير وخاصة الشباب لتحسين مستوى معيشتهم، ليقرروا خوض رحلة الموت “الهجرة غير الشرعية” حاملين معهم أحلامهم وأمانيهم لمستقبل أفضل لهم ولأسرهم.
سيناريو يتكرر مرارا وتكرارًا، وجميع دول العالم تبذل قصارى جهدها لوقف مسلسل الموت، إلا أن سوء الأحوال الاقتصادية يدفع الشباب لخوض هذه التجربة المحفوفة بالمخاطر والتي تدفعهم لمصارعة الموت مرات عدة بطرق مختلفة، إما جوعًا أو قتلًا، أو اختناقًا أو ضربًا من قبل المهربين، أو من خلال إطلاق النيران من قبل حرس الحدود، أو يتعرضون للاختطاف من قبل الميليشيات التي تطلب فدية من أهاليهم في مقابل إطلاق سراحهم، أو الموت خوفًا من المصير المجهول؛ فتعددت الأسباب والنتيجة واحدة.
نقطة الانطلاق
وتعتبر محافظة مرسى مطروح الحدودية مع دولة ليبيا نقطة انطلاق معظم المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، ومن الممكن أن يبقى المهاجرون بدولة ليبيا بناءً على الاتفاق مع المهرب وحجم المال المدفوع، بدءً من ثمانية آلاف جنيه، وحتى عشرين ألف جنيه، ويحدد بحسب المنطقة المتفق الوصول إليها، فكلما بعدت المنطقة في اتجاه الغرب، زادت التكلفة.
رحلة عذاب قبل الموت
يروي “ع-أ” الشاب الأربعيني لـ”موقع الحرية” أنه كان يعلم مدى خطورة القرار الذي اتخذه، وأن الرحلة بالفعل ستكون مليئة بالمخاطر، ولكنه لم يدرك أن الواقع جاء أصعب بكثير مما كان يتوقع “دي رحلة عذاب قبل الموت”.
من تجارة اللحوم إلى الهجرة غير الشرعية
تراكمت عليه الديون لتصل لـ ٨٠٠ ألف جنيه إذ كان يعمل بمجال تجارة اللحوم عبر استيراد “العجول” من السودان، وعقب الأحداث الأخيرة بالسودان لم يستطع جلب العجول المتفق عليها بعد دفع ثمنها، ما دفع شركاءه بمطالبته بأموالهم، وهو ما لم يستطع فعله، خاصة أن الوضع بالسودان ما زال غير مستقر، فاتخذ قرار السفر”غير الشرعي” ليحسن من أوضاعه ويسدد ديونه، مبررًا لنفسه أن السفر الشرعي سيأخذ وقتًا أطول ويتطلب أموالًا أكثر، ساعده على اتخاذ هذا القرار تواجده بالسوق فعرف طريق الهجرة غير الشرعية لـ “ليبيا” عبر السلوم.
قبل اتخاذ قرار السفر
قبل أن يتخذ “ع-أ” قرارًا نهائيًّا بالسفر، تواصل مع أحد معارفه وسأله بطريقة غير مباشرة عن أوضاع السفر بطريقة غير شرعية، وأبلغه صديقه أن هذه القبائل خونة وبمنتهى البساطة يقومون بتسليم مجموعات معينة مقابل تسهيل تهريب مجموعات أخرى.
وأبلغه أيضاً أنه ذات يوم فوجئ باتصال من صديق له يروي قصة شقيقه، الذي كان يحاول السفر بطريقة غير شرعية؛ قبل أن يتعرض لطلقات نارية على الحدود وهو الآن محاصر داخل الجبال.
قبل مغادرة مسقط رأسه
اتفق صاحب الرحلة مع أحد أصدقائه على كلمة سر حتى لا يخسر حياته وأمواله أيضًا “مش هيبقى موت وخراب ديار” حيث أن المتفق عليه أن أهله أو أي شخص من طرفه يرسل إليهم الأموال بعد الاطمئنان على وصوله، وهنا كانت كلمة السر بينه وبين صديقه: “هات الفلوس من الفيزا” ويعني أن الوضع غير مستقر أو “حول الفلوس” وتعني أن الوضع مستقر وهو بخير.
أهم تعليمات المهربين:
ألف جنيه تكفي حتى وصولك ليبيا
من الأفضل عدم اصطحاب هواتف باهظة الثمن
الرحلة إلى مطروح
لم يستطع أي فرد من أسرة الشاب الأربعيني حتى زوجته إقناعه بالتراجع عن هذا القرار، والجميع يعلم أنه شخص عنيد بطبعهة”صعيدي بقى هيعملوا ايه”.
في الواحدة صباح الأحد، 7 مايو، استقل “ع-أ” قطار مغاغة – دمنهور، ثم دمنهور- مطروح، حتى وصل في حدود الساعة الرابعة ونصف عصرًا. أرسل إليه المهرب سائق تاكسي في حوالي الساعة السادسة مساءً، وبعد أن بدأت الرحلة داخل محافظة مطروح وصولا للحدود، بدأ سائق التاكسي في التواصل مع هاربين آخرين ليصبح معه ثلاثة أشخاص آخرين لم يكن يعرفهم ولم يدرِ بينهم أي حديث طيلة الطريق، حتى وصلوا إلى مدينة السلوم وتحديدا قبلها ب 2 كيلومتر؛ ليخبرهم سائق التاكسي بضرورة النزول، وكان في استقبالهم طفل يتراوح عمره بين 12 لـ 15 عاما، وهو ما يعرف بـ”الدليل” أي الذي يدلهم على طريق السير، إضافة إلى ما يقرب من مائتي مهاجر غير شرعي.
قبيلة أولاد علي
قبل تقسيم الحدود كانت قبائل أولاد علي تعيش بمنطقة واحدة ثم انفصلوا جزء بمصر والجزء الآخر بـ “ليبيا”، ورغم مرور سنوات كثيرة على تقسيم الحدود إلا أن جميع أفراد القبيلة ما زالوا على تواصل، بل ويعملون معًا في محاولات التهريب، ويعتمدون على أطفالهم في استكشاف الطرق لاستبعاد الشكوك عن الأطفال “بحسب ما سمعه” ع-أ”.
رحلة العبور من السلوم إلى ليبيا
منذ لحظة الوصول للسلوم وحتى ليبيا، تلك المسافة يقطعها المهاجرون سيرًا على الأقدام، ويتأكد الدليل أن جميع المهاجرين قد أغلقوا هواتفهم،
تبدأ الرحلة من هضبة ثم يتسلقون الجبال والمرتفعات، وكان يسبقهم “دليل وخلفهم دليل” وأحيانا في المقدمة ثلاثة أدلة، كل دليل منهم يركب حمارًا.
الدليل القائد يعرف الطريق جيدًا، وبعد مسافة نصف كيلو متر تقريبا يجد علامة مميزة توجهه للطريق، وبجوار العلامة يجد هاتف محمول، يغلق القديم ويتركه بنفس المكان، ثم يستخدم الجديد، وهكذا تكرر هذا الأمر حوالي ثلاث مرات.
من السير بالـ “خرزانة” إلى الضياع وسط الصحراء
وذكر”ع-أ” أن أحيانا رحلة السير تكون مشيًا، وأحيانا جريًا، والدليل من الخلف يقوم بضرب المهاجر من الخلف باستخدام “خرزانة غليظة”، وخرطوم كهربائي، في حالة تأخره أو بطئه في الحركة، فضلا عن أبشع الشتائم والإهانات، مع إعطائهم تعليمات مفاجئة بين الحين والآخر “مثل اقف مكانك، نام على بطنك، اقعد، ماتبصش يمين ولا شمال”.
وتابع “خلال هذه الفترة بدأ الشباب يتركون أغراضهم وشنطهم التي لا يستطيعون حملها في ظل المجهود الشاق والمسافات الطويلة التي يقطعونها جريًا ومشيًا، حتى أن شابًّا من كثرة الإرهاق والضرب تركه الدليل وسط الصحراء واستكمل رحلته، وآخر سلم نفسه لحرس الحدود.
يحكي صاحب القصة :” أما أنا فقد أصيبت في قدمي وحملني ثلاثة شباب وجروا بي، حتى تحسنت، وبدأت الجري مرة أخرى وسط إهانات وسيل من الشتائم وضرب ما زال أثره بجسدي حتى الأن”.
المرور من كمين السلوم وصولا إلى كهف العقارب
بعد رحلة سير استمرت أكثر من ثلاث ساعات بين الجبال استقبلتهم سيارة دفع رباعي نقلت تلك المجموعة إلى مكان قريب من الجبل، وطلب السائق منهم المشي حتى الوصول لمصدر الضوء؛ إذ كان بانتظارهم شخص يحمل كشافًا على بعد حوالي ثلاثة كيلومترات، وأخذ منهم جميع هواتفهم وطلب من كل شخص مائتي جنيه؛ مقابل انتظارهم داخل مكان يشبه الكهف، يمكنهم رؤية العقارب والذئاب، وكان داخل الكهف حوالي ٣٠٠ شخص يأكل البرد في أجسادهم.
وتغيير الدليل وكلمة السر
في السابعة صباحًا من اليوم التالي، سلمهم الدليل هواتفهم وطلب منهم النزول إلى أسفل الجبل ليجدوا بانتظارهم مجموعة مكونة من حوالي عشرة أشخاص، لا يتجاوز عمرهم خمسة عشر عاما، وبدأوا بتوجيه الأسئلة “فين مجموعة فلان، ومين محافظة كذا” حيث كان لكل محافظة اسم وكلمة سر، وكان مجموعة الشاب الثلاثيني هي “مجموعة أبو عبدالله” أو “مجموعة الأسد” وكلمة السر كانت الزعيم وكانت هناك كلمات سر أخرى مثل “ريكراكي” و”الونش” وغيرها.
انتقل المهاجرون إلى مخزن جديد وسط جبال السلوم، والمخزن مصطلح متداول بين المهربين، به غرف غير آدمية، ومساحتها ضيقة للغاية، يتم وضع المهاجرين فيها، وهناك كان ينتظر أيضا مجموعة أخرى من المهاجرين.
وكان المهاجرون قد أهلكوا من المجهود والجوع والعطش، ودخل عليهم أشخاص لبيع الطعام: “علبة جبنة عشرون جنيها، رغيفان عيش عشرون جنيها، زجاجة مياه عشرون جنيها”.
محاولات إلهاء حرس الحدود
في الساعة الـ 12 ظهرا تم تسليمهم إلى مجموعة أخرى، وغيروا كلمة السر مرة أخرى لاسم “الواعر” وطلبوا من المهاجرين الانتشار بين الصخور في مجموعات صغيرة لكل منهم دليل، في محاولة للاختباء من أنظار حرس الحدود.
في هذا التوقيت حدث اشتباك بين أحد المهاجرين والدليل؛ ليظهر أكثر من ثلاثين شخصًا تابعين للمهربين من بين الصخور ومن بينهم أطفال.
يقول صاحب القصة الشاب الأربعيني إن المهاجرين الذين اشتبكوا مع الدليل تم تسليمهم لحرس الحدود في محاولة منهم لإلهاء الجيش لإتمام عمليات أخرى وليس فقط تهريب مهاجرين بل مخدرات وأدوية طبية أيضًا.
“مخدرات تقدر قيمتها بالملايين”
أدرك “ع” أنه ضمن المجموعة التي ستصل بسلام عندما علم أن مجموعته سيتم تهريب معهم مخدرات، وليس من المنطقي أن يضحوا ببضائع بالملايين فاطمأن قلبه قليلا، أن هذا الرعب الذي يعيشه حتما سينتهي قريبًا، خاصة أن مجموعته كانت آخر مجموعة ستتحرك بعد الاطمئنان من استقرار الطريق، وكان عددهم تقريبا ٣٠٠ من أصل ألفي شخص، منهم من هرب ومنهم من تم تسليمه ومنهم من تم إلقاء القبض عليه، ومن تم إصابته بالرصاص.
طريق الوديان وصولا إلى مساعد -ليبيا
استكمل المهاجرون رحلتهم في الخامسة مساءً ووصلوا إلى ليبيا، وتحديدا منطقة “مساعد” في السادسة صباحًا، وساروا وسط طريق مليء بالوديان والهضاب، مشوا لمسافة تصل لحوالي ٨٠ كيلو متر، وسط تعليمات من الدليل حال ظهور أفراد حرس الحدود مثل ” لو عسكري قالك ثابت اجري وانزل تحت مش هينزل وراك لأنها مناطق واعرة جدا، وممنوع تبص يمين أو شمال عينك أدامك”.
ومروا بحقلي ألغام، حقل بمصر وآخر بليبيا، في الحقل المصري مر كل شخص على حدة، أما الحقل الليبي مروا في صف واحد، وأثناء مرورهم بالحدود الليبية تفاجأ المهاجرون بإطلاق كم كبير من الرصاص عليهم من قبل حرس الحدود تارة، ومن قبل الميليشيات تارة أخرى ونجحوا بالفعل في احتجاز حوالي مائة شخص، تمهيدًا للتواصل مع أهاليهم في مصر وطلب فدية.
وصلت المجموعة المتبقية إلى مخزن بمنطقة “مساعد” بعد مرور حوالي ثلاث عشرة ساعة، وظلوا طيلة هذه المدة بلا طعام وشراب.
وهنا لم تكن النهاية ولم تتوقف الإهانة ولم يصلوا إلى نقطة الأمان فما زال مسلسل الرعب مستمرً.