المشهد اليمني

دروس من الفتح الأعظم (3-4)

الخميس 1 مايو 2025 10:45 صـ 4 ذو القعدة 1446 هـ

11- إستعراض الجيش والقدرات:
أحياناً تضطر القيادة عند نقطة محددة، وحينما تأمن عدم الإضرار بأهدافها وأسرارها، أن تستعرض جيوشها وقدراتها الحربية ليس بغرض التفاخر والزهو على العدو، وإن كان في هذا الموطن جائز، ولكن من أجل بث الرعب في صفوف العدو وحمله على الاستسلام دون إراقة الدماء؛ خاصة إن كان الموضوع فيه دعوة وإسلام، وإرساء مداميك الدولة، لتسليم الحاضنة الشعبية دون الإضرار بها والمحافظة عليها؛ ففتح القلوب هو الأدوم حتى لا يجد من يقاومه أو يعمل على تقويضه، بعكس الفتح بالسيف فقط دون المشروع فهذا يحمل بذور مقاومته وفنائه في نفسه، ولذلك كان معظم فتح الجيوش الإسلامية يتكون من شيئين اثنين؛ الدعوة بالحسنى، أو المصاحبة بالسيف الذي يعقبه الدعوة بالحسنى وإرساء النظام العام العادل الذي تأنس إليه الشعوب، ويكون أدوم حالاً وأفضل استقراراً.

فعند فتح مكة، وبينما كان أبو سفيان قد أسلم من الأساس، إلا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر عمه العباس أن يحبس أبا سفيان عند ممر ضيق يسمى حطم الخيل، فقال النبي للعباس: "احبس أبا سفيان عند حطم الخيل، حتى ينظر إلى المسلمين". فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي له تمر كتيبة كتيبة، على أبي سفيان .. فمرت كتيبة، قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: ما لي ولغفار. ثم مرت جهينة، قال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم، فقال مثل ذلك، ومرت سليم، فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية. فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار. حتى مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار –رضي الله عنهم- لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله: يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة [هنا العبرة في الاستعراض]، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن".

لقد كان من أهم مظاهر الاستعراض ذاك أن أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- كل تلك الكتائب والألوية البالغ عددها عشرة آلاف مقاتل أن يأخذ كل واحد منهم مشعلاً مضيئاً مما أثار الرهبة والرعب ليس في قلب أبي سفيان وحسب بل لقد كانت رسالة موجهة ليسمع بها في كافة الجزيرة العربية، وأن الإسلام قد ساد في الجزيرة، وانتهى عهد الجاهلية والشرك، والبدء بمرحلة جديدة في شتى جوانب الحياة.

لقد كان الفتح إيذاناً بانتهاء مرحلة عصرية كاملة مظلمة وبداية مرحلة نورانية عادلة وجديدة، منظمة ودقيقة، ناهضة بالعرب من مدخل الإسلام السائد بقوانينه وأحكامه وتدقيقاته.

12- تحيّن الفرص:
لا يوجد قائد عسكري ولا سياسي في الدنيا يمكنه أن يغفل عن اهتبال الفرص المواتية؛ ففرصة سانحة اليوم لا تُضيع خير من عشر في غيرها، ولذلك أسرع النبي إلى هذه الفرصة بعد أن أمّن ظهره في المدينة المنورة وما حولها من غدر ومكر اليهود، خاصة بعد فتح خيبر، ولم يبق معه في الجزيرة العربية إلا فتح مكة، وهي رأس الجزيرة ومرجعيتها الكفرية في تلك الأثناء، وقد أصبحت وحيدة بعد أن أسلم كل المحيط العربي في الجزيرة العربية.

لذلك فقد كانت كثير من المعارك المصيرية والاستراتيجية عبر التاريخ هو النظر إلى المتغيرات السياسية والاستراتيجية المحيطة بأرض المعركة من عوامل شتى؛ سواء كانت عوامل عسكرية، أو سياسية، أو اقتصادية، وهي التي تساعد في الانتصارات السريعة، أو متغيرات محلية أو إقليمية أو دولية.

فقد سبق أن عملت قريش على بناء تحالف إقليمي مع اليهود ومحلي مع القبائل العربية ضد دولة الإسلام، وهذا لم يغفله النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى لا يتكرر التحالف معها فسارع إلى اغتنام فرصة الصلح مع قريش لفتح خيبر وإنهاء قوة اليهود ومواطنهم، وكذلك مع الجانب الدولي المتمثل في الفرس والروم الذين كان لهم علاقات تجارية مع مكة وجواسيس فيها كبيوت تجارية ربما يتم الاستعانة بهم من قبل قريش لتكوين تحالف دولي فكانت السرعة والمباغتة حتى لا يتم الاستنجاد بهم.

كانت الظروف الدولية والإقليمية تصب في صالح المسلمين؛ فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يغفل الظروف الدولية، وكان يراقب الحرب الأخيرة بين الفرس والبيزنطيين، وينتظر نتائجها، وتضعضع قوة الغالب والمغلوب منهما.

فقبل أن يفتح النبي –صلى الله عليه وسلم- مكة المكرمة فقد كان أمّن المدينة وما حولها؛ بمعنى تأمين ظهره، وكذلك حيّد الروم من استهداف الجزيرة العربية بعد غزوة مؤتة. وفعله الثوار اليمنيون ومساندوهم في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر فقد كان العصر عصر التحرر؛ فبينما كانت بريطانيا مشغولة في مناطق كثيرة من العالم واقتصادها يضعف تم تحرير جنوب اليمن، وقبل ذلك كانت الصراعات داخل بيت حميد الدين من أجل عرش الإمامة قد ساعد ثوار سبتمبر على الثورة، وساندت مصر الثورة بعد ضعف جزئي في المحيط، ومن ذات الأسباب استغل الإماميون انسحاب مصر من اليمن وهزيمتها في حزيران 67م وأعاد الإماميون الكرّة لحصار السبعين.

وللأسف الشديد، كم تمر علينا اليوم من فرص للتخلص من الإرهاب الحوثي ولا نستثمرها، ويبدو أن هناك من هو مستفيد –بطريقة أو بأخرى- من بقاء الحوثي على رأس احتلال اليمن ولذلك يعرقل التحرير.

13- البراءة من العدو وعدم المداهنة:
ومن هذه النقطة تحديداً تأتي الغفلة، وتأتي الهزيمة للجيوش التي تخاتل في مواقفها، أو في الحاضنة الشعبية التي تداهن بفعل قرابة وتكون عرضة للاختراق وتسريب المعلومات للأعداء، وكان هذا الأمر من العوامل المهمة في إنجاح مسير الجيش نحو مكة وعدم معرفة كفار قريش به.

وتجلت هذه الصورة في أعظم وأنبل الصور الوفية لزوج النبي –صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبي سفيان، حينما قدم أبو سفيان على رسول الله إلى المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طوته عنه، "فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟! قالت: بل هو فراش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر"!

وكذلك موقف حاطب بن أبي بلتعة حينما أراد أن يعلم قريشاً بمسير النبي إليهم، وقصته مشهورة فوبخه الله من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}الممتحنة1
في هذه الآية أوضحت الأسباب والحيثيات والتربية النفسية والإيمانية والسلوكية ليس لحاطب وحده بل للمسلمين جميعاً، وما ينبغي أن يكونوا عليه في كل زمان ومكان.

فحالنا في اليمن اليوم مع المليشيا الإرهابية الحوثية هو هذا الوضع من المداهنة وعدم استشعاره كعدو متربص، يقدم له البعض المعلومات، ويعايش الحوثة بكل أريحية، والحوثة يستدرجون الناس للمعلومات ويكونون لهم حواضن شعبية واختراقات في مناطق الشرعية، وبالتالي تتسرب الكثير من المعلومات غبر هؤلاء الغافلين الذين لا يدركون حجم وفداحة هذه الجرائم من الموالاة والمداهنة، بينما هم يتربصون بكل إنسان؛ حتى من يسلم على عنصر من عناصر الشرعية سواء كان سياسياً أو عسكرياً نجد العناصر الحوثية تتعامل معه بكل إرهاب، ويتم الزج بهم في المعتقلات وتعذيبهم حتى الموت، وهم ليس لهم في الأمر شيء!
وحينما استجار أبو سفيان بعمر لم يجد من عمر إلا أشد الأجوبة: والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به!

تكامل مع القيادة، وتربية للحاضنة الشعبية، وتحصيناً لها من أية اختراقات؛ فهي الأرضية الصلبة التي ينطلق منها الفتح، وتتحقق من خلالها الانتصارات، ولذلك منحت نصيباً من الغنائم وهو سهم ذوي القربى للمقاتلين، وليس المقصود بهم بني هاشم، كما في الفقه المغلوط.

14- العقاب والعفو عند المقدرة:
تعامل النبي مع أهل مكة:

لقد تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع أهالي مكة معاملتين مختلفتين؛ الشدة في موضع الشدة، والعفو والصفح بدرجة تربو على 95%، وهذا تعامل القائد الحكيم؛ فقد أمر بقتل صناديد ومتعنتي قريش الذين لم يلقوا السلاح، والذين غدروا بالاتفاقات، وغدروا بالمسلمين، والمرتدين عن الإسلام، ومن أصر على الأذى، بشرط قبل أن يصلوا إليه تائبين، وقال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة. فعن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله له الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: "اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. فأما عبدالله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعد بن الحرث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً، وكان أشب الرجلين فقتله. وأما مقيس بن صبابة فأدركه رجل من السوق في السوق فقتله، وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف. فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا. فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره. اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتي محمداً فأضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً. قال: فجاء فأسلم".

أما الجانب الآخر، وبعد أن انتهى من الخلاص من مهددات قريش وأولئك النفر الذين حددهم، جمع أهل مكة وعفى عنهم بتلك المقولة المشهورة عنه، وخاطبهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟!"، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

العقاب والعفو مثل كفتي الميزان، وتطبيقهما معاً لا يملكهما إلا قائد حكيم، صاحب مشروع ورؤيا، ولا يكون القائد مشبعاً بنار الحقد والكراهية، ومن خلال النموذج الذي قدمه لنا الرسول –صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة فإن العقوبة لا تتركز إلا على الرؤوس التي لا يرجى خيرها ولا نفعها للأمة فيما بعد في الدولة الجديدة؛ لأنها ستظل مرضاً خبيثاً ينخر جسد الأمة، وبالتالي قطع العلل أولى من تربيتها ليبرأ الجسد العام للأمة، وقد رأيناها بعدد الأصابع فقط.
فالمنتصر المنتقم غالباً لا يستقيم حكمه، ولا تنقاد له الشعوب، ولا ينمو مشروعه، ولا يجد له تربة خصبة تحتضنه، وهذا لا يعني عدم العقاب الذي يرهب المتربصين، ويحمي الدولة الوليدة، ولكن يكون بمنتهى العدل.
... يتبع