ما الذي يجعل الحقيقة غائبةً رغم وضوحها كالشمس في كبد السماء؟ كيف غُشيَت الأبصار عن رؤية رجلٍ اعتلى سُلّم الحكم في تركيا، مستغلاً الإسلام والقضية الفلسطينية، ليُضلّل العالم الإسلامي، ويجعل من نفسه بطلًا وهميًا باسم القدس وغزة؟ إنه رجب طيب أردوغان، الرجل الذي تقمّص دور المنقذ والمجاهد، فخدع الجماهير، لا سيما الأتراك، إذ ظنّوا أنهم أكثر نقاءً من العرب، وأن عقيدتهم الإسلامية لم تتلوث كما حدث – برأيهم – عند العرب، فانساقوا خلف خطابه العاطفي.
لقد كشفت غزة الحقيقة. نعم، كانت غزة بمثابة الكاشف السياسي والإيماني لأردوغان. فحينما اشتعلت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، هبّ أردوغان لنجدة حليفه إلهام علييف، رئيس أذربيجان، دون تردد. والسؤال: لماذا لم يهبّ لمساندة غزة بنفس الطريقة؟ أليس علييف نفسه من دعا بنيامين نتنياهو لزيارة باكو رغم أن الأخير مُلاحق دوليًّا بصفته مجرم حرب؟! أليس علييف هو الحليف الصريح للكيان الصهيوني، وأرضه منصة لطائرات الموساد والطائرات الإسرائيلية التي تهدد إيران؟
في غزة وحدها قُتل وجُرح أكثر من 200 ألف مسلم، ومع ذلك لم نشهد تحركًا تركيًا واحدًا يشبه ذلك الذي وُجه لأذربيجان أو حتى ليبيا. في بداية العدوان على غزة، خرج أردوغان بخطاب ناري، توعّد وأرعد، وأعلن أنه لن يترك غزة، كما لم يترك ليبيا و”قره باغ” (في إشارة إلى دعم أذربيجان)، ولكنه وبعد مرور أكثر من 589 يومًا، لم يفعل شيئًا لغزة، سوى الخطب.
ومن المفارقة أن من كان يطالب بإسقاط بشار الأسد بدعوى “الدفاع عن الشعب السوري”، لم يحرك ساكنًا حينما دكّت إسرائيل كل مطارات وقواعد الجيش السوري عقب تلك الدعوات. لم يبقَ من قوة سوريا حتى مدفع رمضان! ومع ذلك، صمت أردوغان، بل وتحوّل صمته إلى مباركة ضمنية، تاركًا إسرائيل تعربد في سوريا كيفما شاءت.
بل حتى في شبه القارة الهندية، حين تصاعد التوتر بين الهند وباكستان، كانت طائرات “بيرقدار” التركية هناك منذ اللحظة الأولى، تُقدم الدعم اللوجستي والعسكري لباكستان، فيما كانت غزة تنزف، ولا عون ولا دعم من “السلطان العثماني”.
فأين القدس؟ أين غزة؟ أين الإسلام الذي ادّعى الدفاع عنه؟ أليس هذا هو الكذب بعينه؟ أليس هذا هو النفاق السياسي المتاجر بالدين؟!
إنه ليس مجرد متعاون مع الكيان الصهيوني، بل هو أكثر خطورةً، إذ يظهر بلباس الدين، ويستعمل خطاب الإسلام والجهاد لخداع البسطاء. بل إن مقارنةً بسيطة بينه وبين بعض الحكام العرب – رغم تحفظنا على سياساتهم – تُظهر أن بعضهم بدا رمزيًا أقرب للمقاومة من هذا الذي ادّعى الجهاد.
هل تعلم أن أردوغان هو أكثر زعيم في تاريخ الدول الإسلامية تعاونًا مع الكيان الصهيوني؟! لم تكتفِ تركيا باستقبال مسؤولين إسرائيليين، بل ذهب هو بنفسه إلى هناك، وتم تكريمه في تل أبيب. بينما لم يفعل ذلك أي رئيس مصري، رغم أن القاهرة لديها اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ أكثر من 47 عامًا. وبرغم ذلك، فإن مستوى التطبيع والتعاون العسكري والأمني والاقتصادي بين أنقرة وتل أبيب، يفوق أي دولة أخرى، حتى مصر.
وهنا تتسع دائرة الأسئلة: لماذا لم تنضم تركيا لقضية محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل؟
في الوقت الذي هبّت فيه جنوب إفريقيا، الدولة غير الإسلامية، ورفعت راية العدالة ضد الاحتلال الإسرائيلي ورفعت دعوى تاريخية أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، لم نجد تركيا على الإطلاق في الصفوف القانونية الدولية. بل ظلت صامتة، مراقبة، تنتقي كلماتها بدقة، دون أن تتخذ خطوة قانونية واحدة ضد تل أبيب.
ثم جاءت أيرلندا، ومعها إسبانيا، ليعلنا موقفًا متقدمًا، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإدانة جرائم الاحتلال، ومطالبة محكمة الجنايات الدولية بالتحقيق في مجازر غزة، بينما ما تزال تركيا تتلكأ في إعلان موقف مماثل.
أين هي تركيا التي صدّعت آذاننا بالحديث عن القدس؟ لماذا لم تكن هي أول من يرفع دعوى قضائية ضد إسرائيل؟ لماذا لم تطلب حتى الانضمام إلى قضية جنوب إفريقيا؟!
الإجابة شديدة المرارة: لأن العلاقة التركية-الإسرائيلية، رغم الخطابات النارية، هي علاقة مصالح استراتيجية متبادلة، تتضمن تعاونًا استخباراتيًا، وصفقات تجارية، ونقل تكنولوجيا، وتنسيقًا أمنيًا.
وفي خضم هذا كله، يستمر أردوغان في خداع الجماهير، رافعًا شعارات الإسلام، و”المسجد الأقصى”، و”الفتح العثماني”، بينما يمد يده لتل أبيب، ويُنسي البسطاء أن ميزان الإسلام ليس في الخطابات، بل في المواقف.
للأسف، البعض ما زال يرفع الكعبة شعارًا للأنظمة الغربية بينما يتعامى عن هذا المارق الذي يتاجر بالإسلام وقضايا الأمة. ومعه انضمّ آخرون إلى مشهد الخداع باسم الدين، أمثال الجولاني – أو أحمد الشرع – والذي سيُكشف قريبًا في مقال خاص تحت عنوان: “أمين ثابت نمرة ٢” أو “بايلي كوهين الجديد”، إذ لدينا الكثير لنقوله عنه لاحقًا.