عصر ‘‘مدري’’ العظيم

في المجتمعات التي تتهددها الشمولية، لا يعود الجهل عارضًا، بل يصبح سياسة ممنهجة، واستراتيجية بقاء للسلطة. حين يُطلب من الناس أن يقولوا “مدري” لا عن جهل حقيقي بل عن خوف عميق، فنحن لا نتحدث عن موقف فردي، بل عن بناء جماعي للهروب من المعرفة. المعرفة هنا ليست أداة للتنوير، بل جريمة محتملة، والمعلومة ليست حقًا عامًا، بل قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه من يمتلكها. هذا النمط من التوجيه، حين يصدر عن جماعة تسيطر على الفضاء العام، يُعيد تشكيل الوعي والمجتمع والنفس في آن، منتجًا مواطنًا لا يسأل، ولا يشارك، ولا يروي، بل يكتفي بالانتظار الصامت لما يُملى عليه.
نحن بإزاء ظاهرة مركّبة تتداخل فيها السيكولوجيا الجماعية مع منطق الدولة الشمولية والخطاب الإعلامي المليشاواتي ، وهي تعبّر عن لحظة قصوى من الريبة والخوف، أكثر من كونها تعبيرًا عن “الحرص”. إن الدعوة إلى تبني “جهل مصطنع” عبر ترديد عبارة “مدري” هي في جوهرها ليست فقط آلية للرقابة، بل إعادة إنتاج للذات المواطنية ككائن غير عارف، ككائن ناقص، لا يحق له أن يرى أو يقول أو يشارك، بل فقط أن ينتظر “البيان الرسمي”.
نفسيًا، هذا السلوك يعكس إحساسًا عميقًا بالاختراق، ليس فقط من “الأمريكان” كما يزعم الخطاب الحوثي، بل من المجتمع ذاته. فالنظام الذي يطلب من شعبه أن يتظاهر بالجهل، هو نظام لا يثق بشعبه، ويراه امتدادًا محتملاً للعدو. وهذا يعكس مفهومًا مريضًا للدولة: حيث تُحوّل المعرفة إلى تهديد، والمعلومة إلى خيانة، والمواطن إلى جاسوس محتمل. عندما يُلقَّن الإنسان أن يجهل، فإننا أمام حالة من التدمير النفسي الممنهج لما تبقى من الإرادة الحرة. الطفل الذي يسمع والده يرفض الرد على سؤال بسيط بحجة “انتظر البيان”، ينشأ وهو يرى الحقيقة شيئًا مشبوهًا، والمعلومة قنبلة.
فلسفيًا، نحن أمام صورة مليشيا تريد أن تحتكر الحقيقة بالكامل، وترى في “البيان الرسمي” وحده مصدر المعرفة. وهذا يستدعي استحضار فوكو في تحليله لخطابات السلطة، حيث يصبح التحكم في ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، جوهر السيطرة. المعرفة هنا ليست أداة تحرر، بل عنصر خطر يجب كبته. إنها لحظة قصوى من “الإرادة للجهل”، لا تلك التي يختار فيها الفرد أن لا يعرف، بل تلك التي يُجبر فيها على أن لا يعرف. المليشيا لم تعد تكتفي بمراقبة الخطاب، بل تنتج خطابا بديلا يقوم على الجهل المُمأسس.
من وجهة نظر إعلامية، نحن ننتقل من مرحلة التحكم بالمحتوى إلى مرحلة قتل المحتوى من أساسه. لم تعد الرقابة تحذف المنشورات، بل تزرع الخوف في من يفكر بالكتابة. هكذا يتحول الفضاء الرقمي من منبر للتعبير إلى مقبرة للروايات البديلة. المواطن الذي يوثق انفجارًا أو يشهد حدثا يُمنع من النشر بحجة “انتظر البيان”، فيغيب السرد الشعبي، وتُوحَّد الرواية، ويتحوّل الفضاء العام إلى صدى صوت السلطة فقط.
هذه الاستراتيجية تحوّل المواطن إلى أداة في يد الجماعة " المليشيات" ، لا فاعلًا سياسيا. إنها ليست دعوة لعدم النشر فقط، بل إلغاء للذات السياسية، وتحويل الفرد إلى كائن محايد بالضرورة، مجرد رقم في آلة الحكم. تشبه هذه المقاربة ما فعله ستالين في الاتحاد السوفيتي، حين جعل الإعلام كله بوقا رسميا ، وحوّل المواطن إلى “مؤمن صامت”، ممنوع من طرح الأسئلة.
عادةً ما تُعد المعرفة فضيلة، لكن هذه الجماعة تستغل كل فرصة واي سياق، لتحويل الجهل الى فضيلة سياسية. من لا يعرف هو الوطني، من لا يقول هو الأمين، من لا يصور هو المُخلِص. هكذا يعاد تعريف “الوفاء للوطن” بأنه التزام بالصمت، و”الصدق” بأنه تكرار لما يُقال فقط، لا ما يُرى أو يُعاش. إنها صورة معكوسة للمواطنة، حيث يُعاد بناء الإنسان على قاعدة الانسحاب الكامل من الشأن العام.
إنها ليست دعوة للاحتماء بالصمت، بل عملية متقدمة تستغل الطروف التي تمر بها الجماعة لمزيد من هندسة كبرى للوعي اليمني ، تقوم على إفراغ الإنسان من ملكة الإدراك والمشاركة. السلطة هنا لا تكتفي بالرقابة، بل تطلب الطاعة العمياء حتى في مستوى الإدراك الفردي. هكذا يتكوّن الإنسان الجديد في ظل الخوف: لا يعرف، لا يرى، لا يُخبر. مجرد وعاء ينتظر البيان الرسمي ليملأه بالحقيقة الوحيدة المسموح بها. إن تكرار عبارة “مدري” في هذا السياق ليس إلا التعبير الأقصى عن غياب الثقة، وعن انهيار العلاقة الطبيعية بين الفرد والمعرفة، بين المواطن وحقه في أن يكون شاهدًا، لا صدى.