لم يكن شادي وحده من ضاع في الثلج، كان معه شعب بأكمله كان يحلم ويغني ويزرع القطن تحت القصف. كانت مصر تشتعل بنار الكرامة، وفلاحوها يجنون القطن بين المدافع، ويرددون في الحقول أغنيات شريفة فاضل: “أنا أم البطل”، فيختلط صوتها بزغاريد النصر، وتتمايل السنابل مع أنفاس الهتاف: “عاش اللي قال للرجال عدوا القنال”. في زمن كان فيه للأغنية معنى، وللصوت قوة، وللحب وطن.
في ذلك الزمن، كانت القرى تُغني لفيروز، وكان الأطفال يركضون في الحقول كما لو أنهم يركضون نحو القمر. وكان شادي، ذاك الطفل البريء، رمزًا لجيلٍ آمن بالثلج واللعب والنقاء، جيلٍ كان يحلم بأن يعود من الأحراش حاملاً وردة لا بندقية.
شخصية “شادي” هنا ليست فردًا، بل رمزٌ لجيل عربي بأكمله؛ جيل تربّى على الحب والحلم، ثم تمزّق تحت نيران الحروب، وسُرق منه القمر واستُبدل بمشهد الذبح والسواد. شادي الذي غنّت له فيروز “رجعت الشتوية”، عاد اليوم، لا كطفل بريء، بل كمسخ مسلّح في تنظيم إرهابي، يقتل بدل أن يلعب، يصرخ بدل أن يُغني، ويبحث عن فيروز لا ليبتسم لها، بل ليصمت صوتها.
من زمن القمر والضيعة والمواقد والنواطير، إلى زمن الخراب، حيث لا أحد يرى القمر، ولا يسمع البحر، ولا يحرس الكروم.
شادي عاد، ولكنّه لم يعد وحده. عاد ومعه كل حثالات الأرض. عاد ليطفئ القمر، ويسكب خوابي الزيت، ويقتلع الأشجار، ويُخرس العصافير. عاد كي يمحو الذاكرة. مشكلة شادي أنه لم يعد صبي الأحراش، بل أصبح ذئب الحروب، يتلو قائمة اغتيالات بدل أن يكتب على الحجارة.
من حسن حظ فيروز أنها غنّت لجيل فيه قمر وكروم ونواطير وبحر كبير، لا لجيل الهواتف المضيئة في وجوه منطفئة، جيل فقد الإحساس حتى بصوت الرصاصة.
اليوم، لا أحد يخرج ليرى القمر، ولا فتاة تذهب لقطف أزهار البرية أو تزور الجيران في الضيعة. البنت اليوم وجهازها المحمول جيران، والحب أصبح سطراً على تطبيق، ونهاية على “بلوك”.
كان ناظم الغزالي يغني لبنت “طالعة من بيت أبوها”، واليوم البنت تنتقل من قارة إلى قارة، ومن حضن إلى حضن، كما تنتقل من غرفة إلى غرفة. لا أحد يسأل عن القيم، عن الضيعة، عن الصبية التي كانت تحب البحر الكبير.
الجميع أسرى خلف شاشات، خلف إعلانات عن عطر، أو حذاء، أو بناطيل ممزقة، أو حبوب منع الوعي.
وما معنى “أنا والقمر جيران” اليوم يا فيروز؟ صارت نكتة. القمر انطفأ، والكرامة غُسلت بإعلانات التفاهة، والرجال الذين كانوا يركضون نحو القمر، باتوا يلهثون خلف أوهام على أرصفة الليل.
أين هم الجيران؟ في قوارب الموت؟ أم خلف قضبان الاسمنت؟
أين النواطير؟ لا شيء يستحق الحراسة، كل شيء أصبح أنقاضًا: القرى، والقلوب، والبيوت، والكرامة.
من بقي ليغني لفلسطين؟ من بقي يسمع صوت أم كلثوم وهي تصرخ “إلى فلسطين خذوني معكم”؟
من بقي يحفظ أسماء: ليلى خالد، دلال المغربي، جميلة بوحيرد، آمنة الصدر؟
كلّهن صار ذكرهنّ تهمة، في زمن صارت فيه نانسي وهيفاء رموز المرحلة، وصار الغناء عن الوطن تخلفاً وانقراضاً.
من بقي في الشوارع يرفع رأسه لينظر إلى القمر؟ إن وجدته، فأنت أمام معجزة.
وإن رأيت من يؤمن بأن الحب هو نقاء داخلي، لا عملية تجميل تشبه كارداشيان، فاعلم أنك في الزمن الخطأ.
كان غرامشي في زنزانته يكتب:
“لن أبيع كرامتي وأشتري حبك، أنا أبيعك أنت وقلبك على قارعة الطريق، وأمضي بكبريائي.”
أما اليوم، فباع كثيرون قلوبهم وكرامتهم في أسواق لا تعرف الكبرياء.
نحن جيلٌ ما زال يصرخ داخل الذاكرة:
“وينن الملايين؟”
وجيلٌ يرى في أغنية “طريق النحل” هذياناً.
لكننا، رغم كل هذا الانهيار، ما زلنا نحرس جذوة الصوت، نحمل فيروز وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم في قلوبنا، كما نحمل فلسطين، ونحاول أن نرى القمر، حتى لو غطاه دخان العالم…,,!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ..،،
saadadham976@gmail.com