تشهد ليبيا في السنوات الأخيرة تحولات كبيرة في سوق العمل، مع تزايد أعداد العمالة الوافدة بشكل ملحوظ، وقد أثار هذا التزايد تساؤلات حول تأثيره على الاقتصاد المحلي والمجتمع الليبي.
صحيفة “الأنباء الليبية” سلطت الضوء على هذه الظاهرة من زوايا متعددة، مستعرضة آراء الخبراء وشهادات العمال والمواطنين.
آراء الخبراء: بين الإيجابيات والتحديات
تحدث الدكتور فخر الدين الصهبي، رئيس قسم التقارير بإدارة الامتثال بمصرف ليبيا المركزي، لصحيفة “الأنباء الليبية” عن تأثيرات العمالة الوافدة على الاقتصاد الكلي في ليبيا.
العمالة الوافدة الماهرة: دفعة للتنمية الاقتصادية
يشير الصهبي إلى أن العمالة الوافدة المنظمة والماهرة، التي تستجلبها الشركات الأجنبية العالمية، تحمل إيجابيات حقيقية على التنمية الاقتصادية وتساهم في تحقيق معدل نمو اقتصادي مرغوب، كما أنها تحرك إيرادات الدولة ممثلة في مصلحة الضرائب من خلال جباية ضرائب الدخول والإقامة.
ونوه الصهبي أن العمالة الوطنية لديها فرص في المشاريع التي تنفذها شركات أجنبية بحكم القوانين التي تفرضها الدولة على هذه الشركات لتمكين ما نسبته 35% من العمالة الليبية.
العمالة غير المنظمة: أعباء اقتصادية واجتماعية
في المقابل، يرى الصهبي أن العمالة الوافدة غير المنظمة وغير الشرعية وغير الماهرة لها تأثير سلبي على الاقتصاد والمجتمع، فهي تساهم في زيادة معدلات التضخم وارتفاع أسعار الصرف (العملات الأجنبية) نتيجة زيادة الطلب عليها.
وأشار أن هذا الأمر يساعد في زيادة تسرب العملات الأجنبية خارج البلاد عبر تحويلات التي تجريها العمالة الوافدة والذي بدوره ينعكس سلباً على أسعار السلع والخدمات في السوق الوطني، ونوه أن مزاحمة العمالة الوافدة على فرص العمل من شأنها أن ترفع من معدلات البطالة في صفوف القوى العاملة الوطنية.
الأسباب والنتائج المحتملة
يوضح الصهبي أن الموقع الجغرافي لليبيا على البحر الأبيض المتوسط يجعلها نقطة عبور رئيسية إلى أوروبا، وهو ما يستغله العديد من العمالة الوافدة غير الشرعية التي تأتي إلى ليبيا لجمع أكبر قدر من العملة الأجنبية تمهيداً للسفر إلى القارة الأوروبية. يضاف إلى ذلك، ضعف الدولة وغياب الاستقرار التام، ما يسهل دخول هذه العمالة الى البلاد بشكل غير قانوني.
أما عن النتائج المحتملة للعمالة الوافدة على الاقتصاد الليبي، فيتوقع الصهبي أن تتأثر دخول المواطنين الليبيين بشكل سلبي، ويرى ضرورة كبح تدفقات العمالة الوافدة غير المنظمة لما لها من تأثيرات اجتماعية واقتصادية سلبية على الدولة.
شهادات من الميدان: آمال وتحديات العمال الوافدين
تتباين تجارب العمال الوافدين في ليبيا، حيث تعكس بعض الشهادات التحديات التي يواجهونها بينما تسلط أخرى الضوء على الفرص المتاحة.
صعوبات وتحديات
محمد، عامل وافد من السودان دخل ليبيا بطريقة غير شرعية، ذكر أنه جاء بحثاً عن فرص عمل لتحسين ظروفه المعيشية، لكنه يواجه صعوبات في الحصول على حقوقه الأساسية.
ومن بنغلادش، يقول العامل صادق إنه يعمل في ظروف قاسية وبأجور منخفضة، مما يثير قلقه بشأن مستقبله ومستقبل عائلته.
فرص رغم الصعاب
سعد عبد الله، لاجئ من السودان كان يعمل مهندساً معمارياً في بلاده، اضطر للهروب من الحرب ووجد في ليبيا ملاذاً آمناً له ولعائلته. يرى عبد الله أن فرص العمل في السوق الليبي متاحة بشكل كبير، وأن هناك العديد من المجالات التي تفتقر للعمالة، خاصة في القطاعات التي يعزف عنها المواطن الليبي.
ويقول أن العمالة الوافدة تعمل لساعات أطول في ليبيا نتيجة للمساحة الجغرافية للبلاد، وأن الليبيين يستعينون بالعمال الأجانب في الأعمال الشاقة والصعبة ويدفعون لهم أجوراً مرتفعة لإنجازها.
ليبيا كبوابة لأوروبا
يشير عبد الله أيضاً إلى أن ليبيا تُعتبر بوابة للعبور إلى أوروبا، وأن أغلب العمال الوافدين لديهم رغبة في الهجرة إلى أوروبا لإيجاد فرصة أفضل بعد فترة من العمل في السوق الليبي. هذا يفسر سهولة انخراطهم في سوق العمل الليبي.
آراء التجار وأصحاب الأعمال
أحمد علي، صاحب محل تجاري يعتمد على العمالة الوافدة، يؤكد أنه يعتمد عليها لتلبية احتياجات السوق، لكنه يشعر بالقلق من تأثيرها على العمالة المحلية.
يعتقد علي أنه يجب وضع قوانين أكثر صرامة لتنظيم سوق العمل. كما لاحظ مؤخراً إقبال بعض الشباب الليبي على بعض الأعمال التي كانوا لا يقبلون عليها سابقاً بسبب تدني الأوضاع الاقتصادية، لكن هذا الإقبال لا يزال ضعيفاً نوعاً ما والالتزام أيضاً يعتبر ضعيفاً.
تفضيل العمالة الوافدة
تقول أسماء عبد الكريم، التي تدير عيادة طبية خاصة، أنها تفضل الاستعانة بعمال من بنغلادش، وتعزو ذلك لالتزامهم في أداء أعمالهم، وعدم تسببهم في مشاكل تتعلق بتسيير الأعمال والنظافة.
وتشير أن أجور العمالة الوافدة من بنغلاديش تبدو مناسبة بالمقارنة مع الأجور التي تطلبها العمالة الوطنية والذي حاولت تشغيلها لكنها سرعان ما تترك العمل حتى بدون أسباب واضحة ومبررة .
تحليل صحفي: تداعيات السيطرة على سوق العمل
عبّر الكاتب الصحفي عاطف الأطرش لصحيفة “الأنباء الليبية” عن أن استحواذ العمالة الوافدة، شرعية كانت أو غير شرعية، على جزء كبير من سوق العمل الليبي يمثل تحدياً حقيقياً أمام الشباب الليبي الباحث عن فرص عمل.
تأثيرات اجتماعية واقتصادية
ويشير الأطرش إلى أن هذا التحدي يزداد في ظل غياب سياسات تنظيمية فعالة، حيث تركزت العمالة الوافدة في قطاعات حيوية مثل البناء والزراعة والخدمات. تستفيد هذه العمالة من انخفاض تكلفتها مقارنة بالعمالة المحلية، مما أدى إلى تراجع الطلب على الشباب الليبي الذي يعاني أصلاً من ضعف التأهيل المهني والفرص التدريبية. هذا الاستحواذ ساهم في زيادة معدلات البطالة بين الشباب، وولد شعوراً بالإقصاء والتهميش الاقتصادي، مما فاقم من التوترات الاجتماعية.
من الجانب الاقتصادي، وبالرغم من مساهمة العمالة الوافدة في استمرار بعض الأنشطة الاقتصادية، فإن خروج جزء كبير من عوائدها خارج البلاد على شكل تحويلات مالية أضر بالاقتصاد الوطني وساهم في استنزاف السيولة النقدية. كما ساعد انتشار العمالة غير النظامية في توسيع الاقتصاد الموازي، مما قلل من إيرادات الدولة الضريبية وأضعف من فاعلية السياسات الاقتصادية.
مبادرات حكومية: نحو تنظيم سوق العمل
لمواجهة هذه التحديات، أنشأت السلطات الليبية في أواخر عام 2021 منصة إلكترونية باسم “منصة وافد الرقمية”. والتي تهدف إلى حصر وتنظيم تواجد العمالة الوافدة في ليبيا بما يخدم سوق العمل في ليبيا، بالإضافة إلى رقمنة الإجراءات المتعلقة بهم وتسهيل الخدمات المقدمة لهم وتحسين إدارة سوق العمل بشكل عام.
أهمية وضع استراتيجيات فعالة
يتضح أن استحواذ العمالة الوافدة على سوق العمل في ليبيا يمثل ظاهرة معقدة تحمل جوانب إيجابية وسلبية، فبينما تسهم العمالة الماهرة في تعزيز الاقتصاد الوطني وزيادة الإيرادات، تُشكل العمالة غير الشرعية تحديات كبيرة، مثل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم.
وهذا يحتم على السلطات المحلية أن تتبنى استراتيجيات فعالة لتنظيم سوق العمل وتعزيز دور العمالة المحلية، بما يسهم في تحقيق استقرار اقتصادي واجتماعي أفضل في البلاد. فهل ستنجح هذه المبادرات في إحداث التوازن المطلوب في سوق العمل الليبي؟
المصدر : (الأنباء الليبية) – تقرير من إعداد / فاطمة المبروك & أماني الفايدي