في حضرة الصمت الجبلي، حيث تتسرب أنفاس الصلوات من بين جدران الأديرة، يطل علينا سؤال موجع في ذكرى إعدام إشعياء المقاري، هل حقًا يمكن أن يتحول الراهب إلى قاتل؟ أم أن ما حدث كان زلزالًا هز صورة الرهبنة في أعين الجميع، وفتح جرحًا لم يلتئم في قلب الكنيسة؟
الرهبنة ليست ثوبًا يُرتدى ولا جدرانًا تُسكن، بل هي رحلة انحلال من الذات، عطش أبدي للسلام، واشتياق إلى حضن الله. في الدير، تتعلم الأرواح، كيف ترى في الوحوش البرية كائنًا يستحق الحياة، كيف تصير الطبيعة كلها صديقة للإنسان المتصالح مع خالقه. فكيف لمن عاش هذا الصفاء أن يحمل سكينًا أو يضمر شرًا؟
لكن الحقيقة التي لا نهرب منها أن الأديرة، مثل كل تجمع بشري، ليست جنة خالصة. فيها القديسون الذين صاروا نورًا، وفيها المجاهدون السائرون على الدرب، وفيها أيضًا من دخلوا بلا دعوة ولا فهم، حملوا جراحهم وعثراتهم إلى جدران الدير، فلبسوا الزي ولم يلبسوا الروح. هؤلاء، حين تزل أقدامهم، لا يجرحون أنفسهم فقط، بل يجرحون صورة الرهبنة في عيون البسطاء، ويزرعون الشك في قلوب المحبين.
الصدمة كانت قاسية، ليس لأن جريمة حدثت، بل لأن الجريمة وقعت في مكان اعتدنا أن نراه ملاذًا للسلام والقداسة. الناس لم تصدق، لأنهم رأوا الرهبان ملائكة على الأرض، يوزعون المحبة ويزرعون الرجاء في القلوب. لم يتخيل أحد أن يدًا تحمل المسبحة يمكن أن تحمل سلاحًا، أو أن قلبًا اعتاد السجود يمكن أن يعرف الحقد.
لكن الحقيقة الأصعب أن الرهبنة، مثل كل طريق روحي، ليست محصنة من الضعف البشري. حتى في الدير، هناك من يتعثر، من يضعف، من يظل غريبًا عن الطريق رغم السنين. هؤلاء لا يمثلون الرهبنة، بل يمثلون هشاشة الإنسان حين يبتعد عن النور، حتى لو كان يلبس ثوب الراهب.
ومع ذلك، تبقى الرهبنة أكبر من سقطة فرد أو جرح حادث. تبقى تلك القلوب التي تصلي في صمت، وتوزع الخير في الخفاء، وتعيش المحبة حتى مع من يسيء إليها. تبقى صورة الراهب الحقيقي الذي لا يعرف طريق الدم، بل يعرف فقط كيف يغفر، ويصبر، ويحتمل.
في النهاية، لا تحكموا على الرهبنة من خلال من سقطوا، بل انظروا إلى الذين بقوا واقفين رغم العواصف. فالرهبنة، في جوهرها، دعوة للحياة لا للموت، للسلام لا للعنف، للنور لا للظلمة.