د. إبراهيم عرفات يكتب: « الرابطة العربية : عود على بدء» … بدون مقدمات، حال العرب تعيس وبائس إلى أبعد حدود يمكن تصورها. كلنا يعرف ذلك، وبالتالي فلن أعيد وأزيد بشأن ما يعرفه الكافة. سأتوقف فقط في هذا المقال عند فكرة واحدة أسمعها تتردد بين عدد من أصدقائي المشهود لهم بعمق التفكير. يقولون باختصار: أما وأن الأمور قد وصلت إلى ما وصلت إليه، فنحن لسنا أمةً واحدة ولا جماعةً قومية متماسكة ولا جامعةً مؤسسية محترمة. تاريخنا الحديث أسود. وعليه، فالأفضل أن يذهب كل براحته في الطريق الذي يفضله، ولنتعامل مع بعضنا على أننا أغراب لا أعراب.
ولا ألومهم. فالكل محبط. المثقف والأمي. الكل يشعر بمرار طافح. ومراراً ما وجدت نفسي أتفق مع بعض ما يطرحونه. أتفق معهم مثلاً في أن رواتب موظفي الجامعة العربية هدر سافر إن لم يكن حرام بيّن. وأتفق معهم في أن غزو العراق للكويت في 1990، واحتلال سوريا الطويل للبنان، والمضايقات التجارية والاستثمارية المتعددة، والاعتداءات الإعلامية اليومية المتبادلة ليست إلا أمثلة قليلة تؤكد أن الدول العربية تخشى بعضها، بل ويعتبر بعضها البعض الآخر وبالاً ضمن مشهد يشكك في صحة وقيمة مفهوم الأمة. فبعد مسخها حان الوقت لنسخها.
فالهزائم والخسائر زادت إلى حد لا يطاق. ومع ترك الفلسطينيين اليوم لنكبة ثانية أسوأ من الأولى تبين أن البلدان العربية لا تستطيع، بل وبعضها لا يريد، أن يحرك ساكناً حيال ما يجري. لهذا فالعرب أمة على الورق. باللسان لا بالإنسان. أمة صنعتها أوهام تعمقت بالمداحين والشعراء والخطابات العنترية. إلى أن تراكمت في السنتين الأخيرتين شواهد نهائية تؤكد أنها لا أمة ولا يحزنون. ومع حالة الانهزام الواضحة بدأ الناس، خاصة وعامة، يشككون في وجود رابطة عربية من الأصل، بل وينكرون ويتنكرون ويستنكرون الهوية التي تربوا عليها من الطفولة. والناس معذورة لأنهم محبطين. وأمام المحبطين عليك أن تتوقع كل شيء.
ويزيد الإحساس بالمرارة أن التشكيك في الرابطة العربية لم يعد يأتي من إيراني أو تركي أو إسرائيلي أو أمريكي، وإنما من “عرب” الصراحة لهم العجب. يتاجرون مع إسرائيل ويتاجرون بالقضية الفلسطينية. يكرهون اللغة العربية ويحاربونها بضراوة. يرحبون بترمب وبتصفية القضية. لا تعنيهم القدس بالمرة. لا يهمهم تهجير الفلسطينيين من أراضيهم بل هم على استعداد ليتحملوا كلفته. لا تزعجهم حدوتة ترمب الملفقة عن أن إسرائيل غلبانة وصغيرة يجب أن تُفسح لها مساحة أكبر في المنطقة. عرب لا يشغلهم الأمن القومي ولا حتى الوطني. تراخوا مع الانتهاكات الإسرائيلية اليومية الجسيمة في حق إخوانهم الفلسطينيين واللبنانيين، ولم يحسبوا العواقب الوخيمة للتطبيع والوجود الإسرائيليين على أراضيهم. هم عرب بالاسم كما وصفهم عبد الوهاب المسيري بينما يعتبرون يهوداً بالوظيفة.
4 أفكار للعرب
ولأن الصورة جد بائسة، فلا بد من الإقرار بشجاعة بالهزيمة والاعتراف بلا خجل بالذنب. فالاعتراف يهدم الاقتراف. وما اقترفه العرب في حق أنفسهم على مدى طويل لا يمكن التكفير عنه بسهولة ولا التفكير فيه بسرعة. ولهذا فأنا لا أملك طي هذا المقال غير أربعة أفكار سأعرضها بإيجاز على هيئة أسئلة تحيرني ربما سأقدم لها إجابات جنينية لكنها بحال من الأحوال ليست قناعات نهائية.
الفكرة الأولى أن نبدأ بالتفكير في المفهوم نفسه. فهل مفهوم الأمة يناسبنا وينطبق علينا؟ ألم يكن كبيراً علينا قياساً بتصرفاتنا؟ يبدو أنه كان مبهوقاً وفضفاضاً وواسعاً، سرنا خلفه بلا وعي فنسينا حقيقتنا الفسيفسائية المتشظية والمنقسمة إلى طوائف وفرق، وملل ونحل، ومذاهب وأعراق. صحيح أن اللسان قد جمعها، لكن اللسان لحلاوته كان يكذب علينا. أليس مفهوم الرابطة أكثر دقة ومرونة من مفهوم الأمة؟ فالأمة توحي بجسد قوي وطبيعي يضم متشابهين شاء لهم القدر كينونة خاصة، فيما الرابطة مفهوم إرادي نكونه نحن بأنفسنا فنوسعها ونضيقها، ننضم إليها ونخرج منها بحسب مقتضى الحال. فهل حقاً إن الرابطة أفضل وأدق قياساً بحالنا من الأمة؟ لا أعرف. ولا أعرف أيضاً إن كنا نستطيع في ظل البعثرة التي نحن فيها أن نكوّن رابطة من أساسه.
الفكرة الثانية أن نقطع بجرأة مع التاريخ. فهل نستطيع؟ أشك. علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كان استحضارنا بسبهللة للتاريخ قد أفادنا أم أضرنا؟ فكلما ذُكر التاريخ إلا وننتقي منه صفحات دون صفحات. ننتقي الصفحات التي تبكي العيون وتؤجج المشاعر فيتعمق وهم الناس بأنهم حقاً أبناء أمة ذهبية وفية واحدة متناسين الصفحات الأخرى التي تثبت أننا حاربنا بعضنا واعتدينا على بعضنا وخنا بعضنا. وإذا كان من أمل في بناء رابطة عربية جديدة فليبقى من الأفضل محصوراً عند الحد الأدنى الذي يمكن الاتفاق عليه. أليس مفيداً أن نعيد قراءة التاريخ بهدوء بحلوه ومره لنواجه حقيقة أنفسنا لنعرف أننا متقاربين ولكننا لسنا متشابهين. لكن هل لدينا الشجاعة اللازمة لوضع التاريخ على الرف؟ أو على الأقل مراجعته لنتجاوز رومانسيات دست فيه وحان الوقت لمراجعتها بأمانة أخلاقية ووضعها في سياقها وحجمها السليم؟ بصراحة، لا أعرف.
الفكرة الثالثة أن نعيد النظر في فهمنا لمعنى الجغرافيا. فأرض الله قطعة واحدة من شرق آسيا إلى غرب أوروبا، ونحن “العرب” لسنا إلا جزءً منها. فهل كان ما أسميناه بالوطن العربي والعالم العربي والنظام الاقليمي العربي ليس إلا خداعاً جغرافياً للذات؟ ألم نكن منافقين ونحن نتكلم عن “الوطن” كأننا واحد فيما نحن فتافيت تضرب في بعضها. ألم نكن على خطأ ونحن نعطي لأنفسنا انطباعاً جغرافياً خاطئاً بأننا عالم متفرد على سطح الكرة الأرضية وحيز مغلق قاصر على أعضائه بينما كانت مصائرنا تتقرر داخل محيطنا الشرق أوسطي الأكبر؟ ثم كيف لنا اليوم أن نتكلم عن عالم عربي أو وطن عربي بينما العرب يفرون من أوطانهم كلاجئين بل ويبعدون قسراً من بلد عربي إلى آخر دون إبداء الأسباب؟ ثم كيف نهمل ما يرتبه العالم لنا ضمن منطقة واسعة تسمى SWANA أي جنوب غرب آسيا وشمال افريقيا؟ ألا يكفينا في ظل الضغوط التي قهرت أحلامنا القديمة أن نكتفي فنبدأ من جديد برابطة عربية مرنة تستفيد من التقارب الجغرافي بين بلادنا دون أن تراه تكويناً تاريخياً مقدساً؟ هل نستطيع؟ لا أعرف.
الفكرة الرابعة هي أن نراجع ما يستطيع ولا يستطيع العرب أن يقدموه لبعضهم. فقد كانت التوقعات العربية المتبادلة عالية وحان لها أن تتواضع وتعتدل. فالمطلوب ليس البحث عن القاسم المشترك الأكبر وإنما عن الحد الأدنى المشترك. مطلوب رابطة منطقية بسيطة وواقعية تستنكف الأحلام الواسعة التي أضاعتها عقود في الحديث المسهب عن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. فقد ثبت أن العرب هم الشيء وضده. هم عمق لبعضهم في الكلام والشعر. لكنهم عبء على بعضهم في السياسة والمال والعسكرية. هم أكثر من تكلم عن القومية وأكثر من عصف بها. أليس ذلك ما تكشف عنه كل تجارب الوحدة والتقارب والتكامل العربية المحبطة؟
المشهد العربي الحالي كئيب إلى أقصى درجة. وهي كآبة تؤكد أننا في حاجة إلى العود على بدء وأن نفكر من الصفر فنبدأ في تحديد ملامح رابطة عربية جديدة بمواصفات متواضعة نستطيع الحفاظ عليها. وأن نفكر من جديد باتساع عقل ورحابة صدر فيمن نحن وماذا يجمعنا وماذا نريد من بعضنا وما الذي يمكن أن نبنيه ولا نعود لنهدمه. فالعرب باللسان متقاربون. لكن اللسان وحده لا يبني نظاماً إقليمياً متماسكاً. من ناحية أخرى فالعرب بالموضع، حتى إن لم يتكاملوا، لا يستطيعون أن يتنكروا للجغرافيا فيبتعدوا بالمطلق عن بعضهم.
قد يكون الحل في رابطة عربية مرنة لا أعرف لها اسماً أو شكلاً لكن التفكير فيها مطلوب إلى أن تنضج وتخرج على هيئة تصور قابل للنجاح لا يكرر أخطاء التفكير والتصرف السابقة. على أن تكون رابطة وظيفية مرنة وليست مؤسسية على غرار جامعة الدول العربية العاجزة. رابطة وظيفية مرنة وليست قومية توهمنا بأننا واحد فيما نحن مختلفين. رابطة وظيفية مرنة لا تعزلنا عن الكون بحسبة أننا عالم قائم بذاته. رابطة وظيفية مرنة لا تكذب علينا فتدعي أننا نعيش في وطن كبير مفتوح بينما كل من فيه يرسم الحدود ويرفع الأسوار ويضيّق على غيره. أعرف أن الناس تعشق الوهم لكني أرجو أن يقدر بعضهم من يوقظ العقول.
بقلم د. إبراهيم عرفات
اقرأ أيضا: عز الدين الهواري يكتب: إيباك الحكومة الخفية التي تقود العالم نحو الفوضى