لم يعد مستغربًا أن يطلق دونالد ترامب، بأكثر التصريحات إثارة للجدل في المؤتمر الصحفي مع النتن ياهو. لكنه هذه المرة تجاوز كل الخطوط الحمراء المتخيلة.
فقد عبّر مؤخرًا عن “أسفه لأن إسرائيل تخلت عن غزة”، ودعا صراحة إلى “إعادة احتلالها وطرد سكانها” وتحويلها إلى منتجع سياحي.
هذه التصريحات ليست مجرد نزوة سياسية، بل إعلان صريح لتطهير عرقي. إنها ليست زلات لسان، بل إدانة أخلاقية كاملة تكشف الحقيقة العارية: الاستعمار عاد، ولكن بوجه عصري متجمل.
نظرة فاحصة إلى المشهد الدولي تكشف عن مفارقة صارخة: الولايات المتحدة وإسرائيل، وهما الدولتان اللتان دأبتا على انتهاك القانون الدولي ورفض قرارات الأمم المتحدة متى تعارضت مع مصالحهما، لا تزالان تمسكان بزمام النفوذ داخل المنظمة ذاتها التي تتهمانها بعدم الفاعلية. فبدلًا من الانسحاب منها، تستغلان آلياتها لتقنين مشاريعهما وتمرير رواياتهما، بينما تسعيان في الوقت ذاته لتجريد خصومهما من الشرعية.
قرارات الأمم المتحدة: كلمات بلا قوة
منذ عام 1947 وحتى اليوم، أصدرت الأمم المتحدة مئات القرارات المتعلقة بفلسطين، تجاهلتها إسرائيل والولايات المتحدة أو عرقلتا تنفيذها، ومن أبرزها:
- القرار 181 (1947): خطة التقسيم
- القرار 194 (1948): حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة
- القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973): انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة
- القرار 2334 (2016): اعتبار المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية
وهناك عشرات القرارات الأخرى التي تؤكد أن القدس الشرقية أرض محتلة، وتدين العدوان الإسرائيلي، وتطالب برفع الحصار عن غزة، وترفض أي تغييرات ديموغرافية تفرض بالقوة. لكنها تبقى بلا تنفيذ، وكأنها دروع ورقية في وجه دبابات وجرافات.
ترامب: الوجه الفجّ للاستعمار
تصريحات ترامب ليست زلات دبلوماسية، بل تمثل صوتًا استعماريًا بلا أقنعة، يرى في القانون الدولي أداة مؤقتة تستخدم حين تخدم مصالح الهيمنة. ترامب ليس حالة شاذة، بل التجلي الصادق لسياسة خارجية أمريكية طالما فضّلت القوة على العدالة.
حين يدعو زعيم عالمي إلى تهجير سكان غزة لإفساح المجال أمام مشاريع عقارية وسياحية، فإنه يستعيد منطق الفاشيات القديمة. لا فرق بين هذا الخطاب وبين ما نادى به هتلر باسم “المجال الحيوي”، أو اعتقاد فرنسا أن الجزائر “فرنسية إلى الأبد”. الفرق الوحيد؟ أن ترامب يقول ذلك بلا خجل، بل بفخر.
وصمة عار على جبين الإنسانية
ما يجري اليوم ليس انتهاكًا قانونيًا فحسب، بل إهانة صريحة للضمير الإنساني. ففي الوقت الذي حوكم فيه قادة صربيا ورواندا أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب التهجير القسري، يروج رئيس أمريكي سابق (وربما حالي) للفكرة ذاتها كسياسة رسمية. فأين مجلس الأمن؟ وأين المدافعون عن حقوق الإنسان؟
أداة بحدّ واحد
حين تجرؤ لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة على انتقاد جرائم إسرائيل في غزة، تصفها واشنطن بأنها “منحازة”، وتنسحب منها كما فعل ترامب عام 2018، مهددة بقطع التمويل. أما حين يتعلق الأمر بإدانة حماس أو فرض عقوبات على إيران وروسيا، تصبح الأمم المتحدة فجأة مؤسسة “ضرورية” و”فاعلة”.
في نظر واشنطن وتل أبيب، الشرعية الدولية ليست مسألة مبادئ، بل ورقة قوة..فلماذا لا ينسحبون؟
قد يتساءل البعض: إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تحتقران الأمم المتحدة إلى هذا الحد، فلماذا لا تنسحبان منها؟ الجواب بسيط: البقاء داخل النظام يمنحهما القدرة على توجيهه. فهما تستطيعان استخدام الفيتو، وعرقلة القرارات، والتأثير في السرديات، وكل ذلك تحت مظلة “الإجماع الدولي”.
الانسحاب سيجرّد الولايات المتحدة من صورتها كقائدة للنظام العالمي، وسيفضح إسرائيل كدولة مارقة. لذا لن تنسحب أي منهما، بل ستبقيان داخل الأمم المتحدة لا كمنصة للسلام، بل كخشبة مسرح لعدالة انتقائية ومسرحيات جيوسياسية.
نداء إلى الضمير
تصريحات ترامب الأخيرة ليست مجرد تعبير عن انحياز لإسرائيل، بل سقوط حرّ في هاوية استعمارية جديدة. على كل صحفي حر، وكل مفكر شريف، وكل قائد سياسي يمتلك ذرة ضمير، أن ينهض ويواجه. الصمت في مواجهة هذا المستوى من الهمجية ليس حيادًا، بل تواطؤ.