كتبت: أسماء محمود
عازف على أوتار الفن يقف على بوابة الزمن مسافرًا عبر العصور، يقف على بوابة مصر القديمة هائمًا بين حارات المعز وخان الخليلي ومملكة الفواخير يجسد إبداعات فنية وتحفًا عالمية وكأنك تشاهد فيلمًا سينمائيًا يجسد أسطورة الصانع الباكي يحكي قصصًا وأسرارًا عن “مملكة الفواخير وكنوز الطين”، تسمع منه أصوات الطبيعة وألحان الزمن الجميل.
حكايات دولايب ساحر الطين في مملكة الفواخير
في داخل ممر بين الأشجار والنخيل وعلى مرمى البصر تجد رائحة التاريخ تقودك إلى حارة الفواخير، حيث يجلس عجوز سبعيني بين الدولايب والماء والطين وكأنه “ساحر الطين”، لديه أنامل من حرير يحمل بين طياتها إبداعات الفواخير في فرن بدائي يحتضن ماكينة متهالكة بحجر دوار تفوح منه رائحة الزمن الجميل، حيث يجلس شيخ الفواخير “عم رجب الفخراني” منذ طلوع الشمس وحتى الغروب تحت حرارة الشمس القاسية، يواصل العمل على مدار 60 عامًا لصنع إبداعات الأواني الفخارية والتحف الفنية وكأنها من قلب الحضارة المصرية القديمة.
أنامل ذهبية تُحول الطين إلى إبداعات فنية
عندما تذهب إلى هذه الورشة الصغيرة وتشاهد عمل الرجل السبعيني الإبداعي لا يسعك إلا أن تنبهر بهذه المشاهد التي تأخذك إلى شارع المعز وابن طولون وخان الخليلب ومملكة الفواخير، فهذا الشيخ السبعينى يحول الطين بأناملة الساحرة في دقائق معدودة على “الدولاب إلى مزهريات وأوانٍ وأكواب وقدور وقلال ونوافير ومجسمات طيور وحيوانات وشمعدانات وأباريق وتحف فنية تضئ بريقًا يضاهى الذهب.
أسرار مملكة الفواخير
يحكي “عم رجب الفخراني” شيخ الفواخرية وابن قرية بنى عبيد بمركز أبو قرقاص جنوب محافظة المنيا، حكاياته مع مملكة الفواخير وهو جالس على الدولاب بين أصوات التنور والطبلية يغمس يديه في الماء برفق ويضيف كتل طينية غير منتظمة ومع نهاية دوران الدولاب يعلن ميلاد إبداعًا فنيًا يعجز الفنانون عن منافسته.
يروي شيخ الفواخير حكايات الفخار وتاريخ صناعة الفخار وأسرار الفخرانية وشيوخ المهنة الذين ورثوها عن أجدادهم منذ آلاف السنين، فيقول: “وردثت هذه المهنة من أبي وعملت بهذه الورشة منذ نعومة أظافري، عيشت طفولتي في الفاخورة وتعلمت أسرار المهنة وأصولها وتبدأ من اختيار الطين حيث يختار الطين بعناية من عمق 8 أمتار ليكون الأصلح في صناعة الفخار، ومن أنواع الطين الجيد وهو الطين الأسواني والأسبوكلة والبورسلين وطمي النيل.
خطوات صناعة الفخار داخل الدولاب والتنورة
وأضاف سيد الفواخري، أحد شيوخ مهنة الفخار بقرية جريس بأبو قرقاص جنوب المنيا، أن صناعة الفخار بهذا الشكل البدائي تستغرق وقتًا طويلًا لإنتاج قطعة فخارية لأن صناعة الفخار تمر بعدة مراحل أهمها اختيار الطين المناسب ثم الماء والأدوات المناسبة، ويتم تحضير الطين قبل بدء صنع الفخار بإضافة الماء إلى الطين وخلطه جيدًا حتى يصبح لينًا وسهل التشكيل ويترك لمدة يوم كامل قبل وضعه على دولاب التشكيل اليدوي وهو عبارة عن عجلة خشبية تدور بواسطة الأرجل وبعد الانتهاء من التشكيل يتم ترك القطعة الفخارية في الشمس حتى تجف تمامًا وبعدها نقوم بتجهيز الفرن الذي يتم رص القطع الفخارية فيه وإشعال النيران لمدة تصل إلى 4 ساعات يترك حتى يبرد ويتم تجهيزها للبيع.
طواجن الفخار أفضل أنواع الأواني للطهي
وأضاف شيخ الفواخير، أنهم يبدعون فى تصنيع أواني وطواجن الطهي المصنوعة من الفخار والتي تعتبر من أفضل أنواع أدوات الطهي، كما تعتبر القلة والزير فلتر طبيعي لتنقية المياه حيث تضيف طواجن الفخار البلدي مذاقًا جيدًا للأكل، وتضيف القلل والزير والأباريق مذاقًا جميلًا للشرب، فضلًا عن صناعة كافة أنواع الفخار التى يطلبها الزبائن وبأي حجم، لافتًا إلى أن الزير والقلة والطاجن هم أكثر أنواع الأواني الفخار المطلوبة.
تدريب الشباب على صناعة الفخار
وأكد شيخ الفواخير، أنه سعيد بتلك المهنة التي ورثها عن أجداده وأنه دائمًا يقدم خبرته لمن يرغب في تعلم أصول الحرفة بالمجان حيث قام بتدريب عدد كبير من الشباب والحرفيين على صناعة الفخار ونجح عدد منهم فى تطوير إمكانياته والتقدم في الحرفة والانتظام فى العمل بها.
أنواع الطمي الجيدة في صناعة الفخار
وتابع: “مش أي شخص يقدر يقف على الدولاب.. وقفة الدولاب محتاجة مهارة وحاسة فنية، فهو يستطيع أن يشكل من الطين أشكالًا كثيرة، في دقائق”.
واستطرد شيخ الفواخير، هم يعملون في الفاخورة منذ الصباح الباكر إلى المغرب يوميًا، وفي نهاية اليوم يقومون بتحضير الطين في الأحواض لاستخدامها في اليوم التالي، لكي تكون جاهزة للتشكيل في الصباح، حيث يكون هذا الطين من نوع طمي جيد مخصص لصناعة الفخار.
وأكمل: بعد تجهيز الطين يصبح كتلة متجانسة، ثم تأتي مرحلة التشكيل على الدولاب، لافتًا إلى أن لكل نوع له مراحل تصنيعه وتعتبر المنتجات الفخارية أجود من غيرها من الخامات الأخرى مثل المزهرية التي تتميز بأنها أفضل في الزراعة عن نظيرتها البلاستيك.
أسطورة صانع الفخار الباكي
ويحكي شيخ الفواخير عن أسطورة الصانع الباكي في الزمن القديم حيث كان هذا الصانع يشكل الطين بالزيت وعندما أوشك الزيت على الأنتهاء بكى بكاءً شديدًا وتساقطت دموعه على القلل التي كان يصنعها فلانت وتشكلت فى يديه بأشكال إبداعية فعرف في هذه اللحظة أهمية استخدام الماء في صناعة الفخار ومنذ هذة اللحظة ارتبط اسم الفخار بهذا “الصانع الباكي”.
“القدرة والقلة والزير فلتر” طبيعى لتنقية المياه
وقال سامح شيكو، أحد بائعي الفخار، إنه بعد سنوات طويلة من النسيان والتهميش، استعادت القدرة الفخار المصرية والزير والقلة المخصصة لتبريد وتنقية المياه، مكانتها لدى سكان صعيد مصر بعد ما احتلت الثلاجات والمبردات وقوارير المياه المثلجة والزجاجات المعدنية مكان هذه الأواني الفخارية وأفقدتها قيمتها في المنازل الريفية لسنوات طويلة، لكن عاد الكثيرون إلى الطبيعة ولجأ إليها الكثيرون لتبريد وتنقية المياه لتستعيد مكانتها من جديد على شرفات البيوت المصرية خاصة فى ظل ارتفاع فواتير الكهرباء.
أسعار ومواصفات الفخار الجيد
أما عن أسعار المنتجات الفخارية، يقول “سامح”، إن أسعار المنتجات والأواني الفخارية والطواجن الفخار تختلف حسب حجم وشكل ونوعية الطين المصنوع منه، لافتًا إنه منذ زمن بعيد شاع استعمال طواجن الفخار وأطباق تحضير الطعام وتقديمه، في مصر القديمة لأنه يحافظ على الصحة العامة ويقتل الجراثيم فهو يحمي من الداخل بطبقة زجاجية تقاوم الاحتكاك والتآكل بالأحماض والحرارة، ويسهل تنظيفه بالماء والصابون أو بالمنظفات الصناعية، ولا يحتفظ برائحة الطعام بعد استخدامه، ويتحمل درجات حرارة مرتفعة نسبيًا خلال عمليات الطبخ داخل الفرن.
وأشار إلى أن بعض الناس يستعملون آنية مصنوعة من الخزف في طبخ بعض أطباق الطعام داخل فرن الغاز أو غيره، لأنه يكسبها نكهة خاصة مستحبة، حيث تصقل سطوح هذه الأواني الفخارية حتى تصبح ناعمة الملمس، وتصبح جاهزة لاستخدامها في الطهي حيث تعد الأواني الفخارية هي البديل الأفضل صحياً في عملية الطهي.
أهمية القدرة الفخار في الريف المصري
وأكد ربيع الفواخري، أحد بائعي الفخار، أن قدرة الفخار التي تشبه قدرة الفول الشهيرة، تتمتع بتاريخ طويل وذكريات لا تنسى خاصة مع أهالي الريف في صعيد مصر الذين لا يزالون يحافظون عليها رغم الثلاجات والأجهزة المنزلية الحديثة، وهي تشبه كثيرًا “الزير” الذي يستخدم في تبريد المياه أيضًا مع وجود اختلاف كبير في التصميم والشكل، وتشبه هذه القدور بعض الأواني الفخارية المكتشفة في مقابر الفراعنة المصريين بالأقصر والمدن الأخرى.
ذكريات القدرة والقلة والزير في البيوت المصرية القديمة
وتتذكر الحاجة “شربات” إحدى العاملات في مهنة الفخار، هذا العصر الذهبي لأوانى وقدور المياه الفخار، قائلة: “كانت أمي تستيقظ مبكرًا وتنظر وصول السقا وتغسل الزير والقلل في كل طوابق وأدوار المنزل وتنظر السقا الذي يملأ لها هذة القدر بالمياه النظيفة”.
كما تحدثت الحاجة “توفيقة” إحدى العاملات في صناعة الفخار، عن أهمية الفخار في جهاز العروسة في مصر القديمة حيث كان اتقان العروس للطهي في الفخار من شروط الزواج وكان الفخار من ضمن “عيش وشوار العروس”.