في اجتماع دولي هام عُقد على هامش الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، تجمعت دول متعددة بقيادة الولايات المتحدة وإيطاليا لبحث سبل تعزيز الاستقرار في ليبيا التي تشهد حالة من الانقسام السياسي والاقتصادي العميق. تزامن هذا الاجتماع مع تطورات داخلية مثيرة في ليبيا، أبرزها التوصل إلى اتفاق حول تعيين قيادة جديدة لـ مصرف ليبيا المركزي، الذي يُعد خطوة ضرورية لإنهاء الانقسامات الداخلية وتحقيق استقرار اقتصادي مستدام.
تعتبر الأزمة الاقتصادية الليبية، التي تفاقمت نتيجة الانقسام السياسي، من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع الدولي. ويشكل الاتفاق على قيادة جديدة للبنك المركزي نقطة محورية في معالجة هذه الأزمة. تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا إلى الدفع بتطبيق اتفاقية إدارة البنك، حيث شددت الدولتان على أهمية “التنفيذ القوي للاتفاقية”، مشيرةً إلى أن قيادة موثوقة ومختصة ستسهم في تحقيق الشفافية والمساءلة، وهو ما سيساعد في إعادة ثقة المواطنين والمؤسسات في النظام المالي الليبي.
يمثل هذا الاتفاق أول خطوة فعلية نحو استعادة الاستقرار المالي، إلا أن التحديات ما زالت قائمة. إذ تتطلب المرحلة المقبلة تركيزاً حثيثاً على تنفيذ السياسات المالية بشكل عادل وشفاف، بما يضمن توزيع الثروة بين مختلف شرائح المجتمع الليبي. ويعد إصلاح البنك المركزي ليس فقط مسألة اقتصادية، بل هو جزء من حل سياسي أوسع لتوحيد البلاد.
من أبرز القضايا التي تناولها الاجتماع الدولي، هي مسألة إدارة موارد النفط الليبية. فالنفط يُعد شريان الحياة للاقتصاد الليبي، لكنّ استغلاله بشكل غير منظم أدى إلى تفاقم الأزمة. ووسط الانقسامات الداخلية، تزايدت المخاوف من تسييس قطاع النفط واستخدامه كأداة ضغط في الصراع السياسي. ولذا، شددت الدول المجتمعة على أن استخدام موارد النفط يجب أن يكون “لصالح جميع الليبيين”، مع التأكيد على ضرورة إدارة هذه الموارد بشفافية وعدالة.
الولايات المتحدة وإيطاليا، وباقي الدول المشاركة، شددت على أهمية عدم التدخل السياسي في قطاع النفط، وطالبت الأطراف الليبية بالسماح بالاستئناف الكامل لإنتاج النفط دون انقطاع. فاستئناف الإنتاج المستقر للنفط سيتيح لليبيا فرصة حقيقية للنهوض من جديد، لكنه يتطلب التزاماً دولياً وإقليمياً بتنفيذ آليات إشرافية فعالة تضمن توزيع الإيرادات بشكل عادل ومساءلة الفاعلين في القطاع النفطي.
لا شك أن الاتفاق على قيادة البنك المركزي وإدارة موارد النفط بشفافية يشكلان خطوات مهمة نحو الاستقرار، لكن الاستقرار الحقيقي لن يتحقق إلا عبر الوصول إلى اتفاق سياسي شامل يمهد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة. فقد أكدت الأمم المتحدة، من خلال مبعوثتها ستيفاني خوري، على أهمية إنهاء الفترة الانتقالية في ليبيا والاتفاق على خارطة طريق للانتخابات.
تمثل الانتخابات الفرصة الوحيدة لإعادة توحيد البلاد وتحقيق تمثيل شرعي شامل للشعب الليبي، إلا أن هذا الهدف يتطلب إزالة العقبات الحالية، بما في ذلك التجزئة المؤسسية والخلافات بين الأطراف السياسية المختلفة. لذا، فإن الضغط الدولي على الأطراف الليبية للتوصل إلى اتفاق سياسي ضروري لضمان عدم العودة إلى حالة الانقسام والتشرذم.
إلى جانب القضايا السياسية والاقتصادية، تطرق الاجتماع الدولي إلى مسألة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية، حيث تم التأكيد على أهمية الاتفاق على آليات فعالة لإعادة توحيد هذه المؤسسات بما يعزز قدرات ليبيا في مجال مكافحة الإرهاب وتأمين حدودها. يمثل هذا الجهد جزءاً من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر 2020، والذي يدعو إلى انسحاب المرتزقة الأجانب وإعادة توحيد القوات الأمنية تحت مظلة وطنية واحدة.
هذا الجانب الأمني يعد بالغ الأهمية في تحقيق الاستقرار، إذ أن الفوضى الأمنية ووجود الجماعات المسلحة لا يزالان يشكلان تهديداً كبيراً لليبيا والمنطقة ككل. من هنا، فإن تفعيل آليات أمنية فعالة وتوحيد الجيش والأجهزة الأمنية يعد من أولويات المرحلة المقبلة.
رغم التحديات الكبيرة، إلا أن الاجتماع الدولي الأخير يعكس رغبة حقيقية من قبل المجتمع الدولي في مساعدة ليبيا على استعادة استقرارها السياسي والاقتصادي. إلا أن هذا الهدف لن يتحقق دون تعاون فعلي من جميع الأطراف الليبية والتزامها بتنفيذ الاتفاقيات الموقعة، بدءاً من تعيين قيادة البنك المركزي إلى الانتخابات وتوحيد المؤسسات الأمنية.
يتطلب المستقبل القريب خطوات عملية ملموسة لتطبيق هذه الاتفاقيات، مع تعزيز الرقابة الدولية والإقليمية لضمان أن تلتزم الأطراف بتنفيذها. كما أن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة وإيطاليا، عليهما أن يستمرا في دعم المؤسسات الليبية وبناء جسور الثقة بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين.
ختاماً، يمكن القول إن الاتفاقيات الأخيرة تشكل خطوة مهمة في مسار تحقيق استقرار ليبيا، لكن الطريق لا يزال طويلاً ومعقداً. التعاون الدولي المستمر والإرادة الوطنية القوية هما الأساسان اللذان يمكن أن يعيدا ليبيا إلى مسار التنمية والاستقرار.